Monday, November 06, 2006

قراءات معلوماتية لهموم مصرية إعادة هيكلة القطاع الصحي ليعمل بالإدارة القائمة علي المعلومات

تقودنا القراءة المعلوماتية لمشكلات الرعاية الصحية في مصر إلي القول بأن هناك حاجة ماسة لإعادة هيكلة القطاع الصحي بأكمله لينتقل من حالته الراهنة القائمة علي نمط إداري ومؤسسي تقليدي يتبني مفهوم حل المشكلات بالمزيد من المباني والأجهزة‏,‏ إلي حالة مختلفة يكون مفهومها الأساسي هو رعاية المواطن استنادا إلي بنية معلوماتية ومعرفية تضطلع بالمسئولية الأولي عن إدارة المباني والأجهزة والبشر من مرضي وممرضين وأطباء‏,‏ ولأننا نطرح مفهوما مختلفا عن الحلول القائمة والمعتادة فسوف أقدم اليوم لمحة بانورامية سريعة للعناصر الأساسية التي يقوم عليها هذا المفهوم‏,‏ علي أن أعود بعد ذلك لتناول كل عنصر علي حدة‏,‏ وذلك وفقا للمعلومات التي وفرها الأستاذ مجدي خيرالله رئيس غرفة البرمجيات والاتصالات باتحاد الصناعات المصرية‏,‏ وخلاصة ما استطعت الحصول عليه من جولات بحث مطولة علي الإنترنت في هذا الصدد‏.‏

أعلم مقدما أن البعض قد لا يرتاح إلي رفع شعار‏(‏ إعادة هيكلة‏)‏ القطاع الصحي‏,‏ ويراه مجرد لافتة تنقل من تحتها الحكومة المكدودة والمنهكة عدوي الخصخصة والبيع إلي مؤسسات الرعاية الصحية علي اختلاف أنواعها‏,‏ بما يراه فيها الكثيرون من أخطاء وخطايا‏,‏ لكنني أؤكد أنه من واقع الخبرات العالمية السائدة في هذا المجال فإن‏(‏ إعادة الهيكلة‏)‏ تعني إعادة صياغة أساليب ومفاهيم تقديم الرعاية الطبية لتكون مدارة ومستندة كلية إلي معلومات دقيقة ومتجددة ومناسبة لكل من المريض والطبيب والمستشفي والمخطط الصحي بما يهيئ الفرصة لتوفير رعاية طبية مناسبة للجميع‏,‏ مع وجود أسس للمحاسبة والتقويم والحفاظ علي الجودة والتحسين المستمر‏.‏

ولو نظرنا إلي العناصر أو المسارات الأساسية التي انتهي إليها الخبراء والمتخصصون علي مستوي العالم وهم يتناولون قضايا الرعاية الصحية من المنظور المعلوماتي وباتوا يطالبون بتطبيقها من أجل تفعيل عمليات إعادة الهيكلة الكاملة للمرافق الصحية‏,‏ سنتأكد علي الفور أن شعار‏(‏ إعادة الهيكلة‏)‏ الذي نتحدث عنه ليس علي الإطلاق دعوة مبطنة لفتح نافذة جديدة يدلف منها رأس المال المتربص والانتهازي إلي قطعة جديدة من لحم الوطن ليلتهمها بلا رحمة ولا وعي كما حدث في قطاعات أخري‏,‏ وسنكتشف أن هذه المسارات هي الطريقة الوحيدة التي بإمكانها انتشال الرعاية الصحية في مصر من هوة التدني والاهتراء والأخطاء‏,‏ ليحصل المواطن في النهاية علي حقه الأصيل في رعاية طبية كريمة جيدة المستوي‏,‏ وحقه كذلك في التمتع بمعايير واضحة للمحاسبة والتقويم‏.‏

إن خلاصة الخبرات والتجارب العالمية المتعددة التي جرت في هذا الصدد انتهت إلي ثمانية مسارات للتغيير وإعادة الهيكلة والتنظيم تشكل في مجموعها منظومة متكاملة مترابطة ومنسقة يتم تنفيذها بالتزامن‏,‏ ويتعين علي المسئولين عن التخطيط الاستراتيجي الصحي علي المستوي الوطني الأخذ بها وتنفيذها كاستراتيجية موحدة لإعادة الهيكلة‏,‏ وهذه المسارات هي‏:1‏ـ مسار رفع الجودة‏:‏

وهو المسار الأكبر والأكثر أهمية‏,‏ لأنه مسئول عن إعادة هيكلة جميع العمليات الإدارية والطبية القائمة وصياغتها بشكل يرفع جودة الخدمات الصحية‏,‏ ويتطلب هذا المسار تشييد بنية أساسية من المعدات والحاسبات والبرمجيات وشبكات المعلومات والاتصالات والقوانين واللوائح المنظمة‏,‏ كما يتطلب تطبيقات متقدمة علي رأسها نظم المعلومات الصحية‏,‏ وأدوات لتقليل الأخطاء واكتشاف العلاقات غير المعروفة بين الظواهر الطبية المختلفة خلال الممارسة العملية والتي لها علاقة وثيقة بأداء الشبكات والمعدات والبيانات‏,‏ كما يتطلب من الدولة والجهات المسئولة عن الرعاية الصحية تطوير معايير ومبادئ لتقييم الجودة بحيث تعمل هذه المعايير علي إعادة صياغة جميع أشكال الرعاية الصحية لكي تكون مركزة كلية علي المريض وليس أي شيء آخر‏,‏ كما يتضمن هذا المسار أيضا العمل علي تقوية وتدعيم العمل الجماعي والتحسين المستمر للخدمة‏.‏

‏2‏ـ التكلفة‏:‏ وهو مسار يتعلق بقضية معقدة ومركبة‏,‏ لأن التكلفة تتضمن أجزاء متنوعة بعضها خاص بالمريض وآخر للطبيب وثالث للتأمين الصحي ورابع للمستشفي وغيرها‏,‏ ولذلك يتعين علي المخطط الصحي أن يعمل في هذا المسار علي إعادة هيكلة وتنظيم وتطوير وتحسين جميع النظم المحاسبية والإدارية السائدة بالمؤسسات الصحية وما يرتبط بها من إجراءات وأدوات وأساليب بحيث يتم تحقيق سيطرة كاملة علي الموارد المتاحة وترشيد استخدامها لأقصي درجة‏,‏ بما يعمل علي خفض تكلفة الرعاية الصحية بالنسبة للمريض والمؤسسة الصحية والدولة ككل‏,‏ وهذا يتطلب بالضرورة السيطرة علي المستلزمات والإمدادات الطبية‏,‏ وفترات الإقامة بالمستشفيات والتشخيصات والسيطرة علي روشتات وبلاغات التأمين الصحي وتطبيق أسلوب الأشعات الرقمية غير الفيلمية وغيرها‏,‏ وتحليل مزايا إسناد بعض المهام للغير‏(‏ التعهيد‏)‏ في مقابل الملكية‏.‏

‏3-‏ رعاية طبية تحت الإدارة والسيطرة‏:‏ ويضطلع هذا المسار بإحداث تغييرات في القطاع الصحي من شأنها جعل جميع أشكال الرعاية الصحية تحت الإدارة والسيطرة‏,‏ بمعني ألا يكون هناك إجراء أو قرار طبي يتخذ في أي وقت أو لأي شخص إلا ويقوم علي معلومات سابقة وآنية ولاحقة‏,‏ ويتم توثيقه وتتبعه ورصده وتصويبه وتغييره في الوقت المناسب‏,‏ ويتضمن هذا المسار زيادة الاعتماد علي الإبداع واستخدام أدوات التكنولوجيا الحديثة كنظم المعلومات الصحية والسجل الطبي التخيلي وغيرها‏.‏

‏4‏ـ الاعتماد والإقرار الدوري بصلاحية تقديم الرعاية الطبية‏:‏ ينطلق هذا المسار من الحقيقة القائلة بأنه ليس هناك طبيب أو ممرض أو مستشفي أو عيادة تمنح ترخيصا بالعمل لمرة واحدة وللأبد‏,‏ بل لابد من وجود نظام للمراجعة والتقييم والاعتماد الدوري للأطباء والممرضين والمستشفيات والعيادات وغيرها‏,‏ للوقوف علي مدي جدارتهم وتأهيلهم لتقديم الرعاية الصحية وفق آخر المستجدات ومعايير الجودة المطلوبة‏,‏ سواء علي صعيد العمل اليومي أو العمليات الحيوية‏,‏ ويفترض أن تتم عمليات المراجعة والتقييم والاعتماد الدوري بناء علي نظم معلومات لتجميع المعلومات اليومية ومؤشرات الأداء‏,‏ ثم تحديد إجراءات الجودة لكل عملية وتحديد مؤشرات الجودة وتحليل الفجوة بين المعايير المطلوبة والوضع الفعلي‏,‏ وآليات لاعتماد صلاحية الأطباء وجميع أفراد الطاقم الطبي‏.‏

‏5‏ ـ صناعة القرار وقتيا‏:‏ وهو مسار يتعلق بأداء السلطات الصحية العليا بالدولة‏,‏ وكيف تدير الموارد المتاحة وفقا لحالتها وطريقة توزيعها علي المؤسسات الصحية جغرافيا‏,‏ وكيف تواجه الأزمات الصحية الطارئة‏,‏ والطريقة التي تتبعها في إدارة المستلزمات الطبية والمعدات ومعايير وتوقيتات شرائها علي المستوي القومي‏,‏ وكذلك كيفية استخلاص مؤشرات الأداء الرئيسية للقطاع الصحي علي المستوي القومي والقيام بالتحليلات المقارنة يتطلب معلومات لرسم الخريطة الصحية والمقارنة بين الموارد المتاحة وحالتها والحاجة إلي تقرير ما هي الخدمة المفضل إسنادها للتعهيد‏,‏ والحاجة الي تحسين المشتروات القومية من المعدات والمستلزمات الطبية ومعايير شرائها كما تقرر هيئة الغذاء والدواء‏,‏ ومؤشرات الأداء الرئيسية القومية والتحليلات المقارنة‏.‏

‏6‏ـ التطبيق المستمر للتكنولوجيا الجديدة‏:‏ في هذا المسار يتعين علي السلطات والمؤسسات الصحية المسئولة وضع خطط دائمة لرصد وتتبع تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات الجديدة وتقييم مدي الاستفادة بها وإدخالها أولا بأول ضمن المنظومة الصحية وخدماتها المختلفة‏,‏ ومن الأمثلة البارزة في هذا الصدد إدخال خدمات التجارة الالكترونية المحمولة في المجال الصحي ونظم الأشعة غير الفيلمية ونظم التعرف علي الصوت والتشخيص والعلاج عن بعد وغيرها وتطبيقات تكنولوجيا التعرف علي الهوية لاسلكيا بموجات الراديو وغيرها‏.‏

‏7‏ـ البحوث‏:‏ يتعلق هذا المسار بوضع قواعد وآليات محددة وفعالة لتنظيم تجميع وفهرسة وتنظيم ومعالجة وتداول البيانات والمعلومات الصحية والطبية المتراكمة بعيادات الأطباء والمستشفيات والمؤسسات الخاصة والعامة والأجهزة الصحية‏,‏ بحيث يسهل استخدامها في إجراء بحوث متنوعة زمنيا وكميا وموضوعيا حول الأوضاع الصحية للمواطنين واحتياجاتهم الآنية والمستقبلية وغيرها‏.‏

‏8‏ـ عائد الإدارة بالمعرفة والمعلومات‏:‏ ويتعلق هذا المسار ببناء آليات ونظم لقياس العائد من وراء إعادة الهيكلة وتطبيق مفاهيم الإدارة بالمعلومات والمعرفة داخل القطاع الصحي‏,‏ ويتعين أن تركز هذه الآليات علي قياس الانخفاض في الأخطاء الطبية ومدي التحسن في إتاحة الرعاية الطبية واستمراريتها ومتابعتها‏,‏ وقياس الانخفاض في وقت إقامة المرضي بالمستشفي‏,‏ ومعدل الانخفاض في التداخلات الدوائية الضارة لدي المرضي‏,‏ وكذلك مستوي الانخفاض في الاختلافات والتنويعات الموجودة بالممارسات الطبية‏,‏ ومستوي الانخفاض في فواتير العلاج‏.‏

وفقا لهذه المنظومة يمكننا الحديث عن إدارة مختلفة للقطاع الصحي‏,‏ فعلي سبيل المثال‏..‏ بدلا من البحث عن إنشاء مستشفيات جديدة تقدم خدمة متدنية الجودة‏,‏ يمكننا المضي في طريق ترشيد استخدام المستشفيات المتاحة وتحسين ما تقدمه من خدمات بميزانيات اقل‏,‏ وهو دور أتقنته مفاهيم الإدارة بالمعلومات والمعرفة من خلال التوظيف الجيد تكنولوجيا المعلومات والاتصالات‏,‏ وقد أثبتت الخبرات العالمية في هذا الصدد نجاحات كثيرة بالعديد من دول العالم‏,‏ حيث أمكن من خلالها تقليص المدي الزمني لدورة العلاج بالمستشفي‏,‏

وإعادة تخطيط الموارد بسهولة لتناسب الاحتياجات الحقيقية لكل منطقة علي حدة وعلي مستوي البلاد ككل‏,‏ مما جعل المستشفيات القائمة قادرة علي خدمة إعداد مضاعفة من المرضي بنفس عدد أسرتها القائمة‏,‏ وهو أمر جعل العديد من الدول تعيد النظر في سياسات بناء المستشفيات‏,‏ وتركز علي تجويد ورفع كفاءة ما هو قائم‏,‏ كبديل عن التفكير في إضافة وحدات جديدة‏,‏بما يحققه ذلك من وفر بالموارد وتقديم رعاية صحية أفضل للمواطنين‏,‏ ومثل هذا السيناريو ليس مستحيلا تحقيقه في مصر شريطة أن نغير بوصلة تفكيرنا ونسمو فوق تراثنا البيروقراطي المتخلف وأن يمتلك صناع القرار لدينا شجاعة ضرب المصالح الضيقة لمجموعة أضيق من أطراف نهمة لا تعرف الرحمة‏,‏ ولاشك أن العناصر السابقة تبدو غير واضحة بعض الشيء ولذلك سأتناولها واحدا بعد الآخر بشيء من التفصيل‏..‏

وإلي الأسبوع المقبل‏.‏


جمال محمد غيطاس
ghietas@ahram0505.net

No comments: