Thursday, October 26, 2006

قراءات معلوماتية لهموم مصرية‏(5)‏ الأخطاء الطبية

بعد مقال الأسبوع الماضي الذي تناولت فيه أهمية القراءة المعلوماتية لمشكلات الرعاية الصحية في مصر اتصل بي الأستاذ مجدي خير الله ـ رئيس غرفة البرمجيات والاتصالات باتحاد الصناعات المصرية وأحد أكبر خبراء نظم المعلومات الصحية بمصر والمنطقة ـ معلقا علي ما كتبت‏,‏ وخلال الحوار التليفوني اتضح لي أن القضية أكثر عمقا وتشعبا وأهمية عما تصورته‏,‏ وأنه لابد من نقل القضية من مجرد الحديث السريع لمرة واحدة عن البعد المعلوماتي لمشكلات الرعاية الصحية بالبلاد‏,‏ إلي التناول العميق والمتأني لإعادة هيكلة القطاع الصحي بأكمله ليعمل وفق مفهوم الإدارة القائمة علي المعلومات والمعرفة‏,‏ بدلا من المفهوم الحالي المنغمس حتي النخاع في إدارة القطاع بطريقة المباني والأجهزة والتعيينات‏.‏

ولأن الحوار لم يكتمل عبر التليفون زارني رئيس الغرفة وجرت بيننا مناقشة طويلة لعدة ساعات شملت القضية بمختلف جوانبها‏,‏ وبناء علي ما قدمه الأستاذ مجدي خير الله وعلي ما استطعت الحصول عليه من جولات بحث مطولة علي الإنترنت في هذه القضية وجدت أمامي معلومات ضخمة كميا ومهمة نوعيا لا أجد أمامي سبيل سوي الدفع بها للقراء والرأي العام‏,‏ عسي أن تسهم في تقديم مسار جديد ومختلف وغير تقليدي للتعامل مع مشكلات الرعاية الصحية في مصر‏,‏ ولذلك سأتوقف مؤقتا عن مواصلة القراءة المعلوماتية للهموم المصرية الأخري‏,‏ وأركز علي تقديم قراءة أكثر عمقا للمشكلات الصحية‏.‏

لعلنا نتفق جميعا علي أن الهدف النهائي للمؤسسات الصحية هو تقديم خدمات الرعاية الصحية بجودة عالية وفي الوقت المناسب لمن يحتاجها بتكلفة معقولة‏,‏ وهذه معادلة لا تتحقق علي أرض الواقع بدون الاعتماد علي المعلومات والمعرفة‏,‏ لأنها تحتاج إلي كفاءة عالية في السيطرة علي الموارد وفي إدارة جميع الإجراءات والأنشطة داخل المؤسسة الصحية‏,‏ وجميعها أمور تحتاج إلي وجود المعلومات‏.‏

ولو حاولنا التمعن قليلا في هذه المعادلة سنجد أمامنا عشرات من المشكلات الصحية الضاغطة التي تعضد هذه الدعوة‏,‏ في مقدمتها مشكلة‏(‏ الأخطاء الطبية‏)‏ التي تستحوذ حاليا علي اهتمام عالمي واسع وليس محليا فقط‏,‏ لكونها تشكل هما ثقيلا علي طرفي المعادلة‏,‏ باعتبار أن الخطأ الطبي يعني تلقائيا تدهورا في مستوي الرعاية وتكلفة إضافية للمريض والمؤسسة الصحية‏.‏

وبالطبع لن أتناول هنا الخبرة المصرية المفعمة بالألم والمعاناة مع الأخطاء الطبية التي تنهش أداء جميع الأطراف داخل المؤسسات الصحية من الأطباء وهيئة التمريض والمعامل والأشعات والصيدليات وغيرها‏,‏ فنحن مجتمع بلا معلومات موثقة ـ سواء في هذه القضية أو غيرها ـ ومن ثم ليس متاحا لنا معلومات تدل علي حجم الظاهرة وأسبابها وتكلفتها المادية والإنسانية من وفيات وإصابات‏,‏ ولكن ما هو متاح إحساس عام مرير وضاغط بالمشكلة أشرنا لبعض ملامحه الأسبوع الماضي‏,‏ ولذلك سأحاول التدليل علي مدي خطورة الأخطاء الطبية وحجمها وعلاقتها بقضية المعلومات من واقع المعلومات المنشورة حول التجربة الأمريكية في هذا الصدد‏.‏

ظلت مشكلة الأخطاء الطبية بالولايات المتحدة لفترة طويلة غير محددة الملامح‏,‏ ولكن منذ عام‏1999‏ بدأ معهد البحوث الطبية التابع لأكاديمية العلوم الأمريكية يصدر تقارير حول هذه المشكلة من أبرزها تقرير آخر عام‏2002‏ بعنوان‏(‏ منع الأخطاء الطبية‏)‏ ومن أهم ما جاء بهذه التقارير أن عدد الأمريكيين الذين يتوفون سنويا بسبب الأخطاء الطبية يتجاوز عدد الذين يتوفون نتيجة حوادث الطرق وسرطان الثدي والإيدز‏,‏ فالأخطاء الطبية تطال حوالي‏1.5‏ مليون أمريكي سنويا‏,‏ وتبطل مفعول الرعاية الصحية تماما لدي ما يقرب من‏98‏ ألفا يتوفون بسبب هذه الأخطاء‏,‏ بينما يعاني بقية المليون ونصف من تدهور في الرعاية الصحية يعرضهم لتداعيات أخري أقلها المكوث بالمستشفي لفترات أطول‏,‏ ومن ناحية التكاليف قال التقرير أن هذه الأخطاء تتسبب في أعباء مالية إضافية تقدر بحوالي‏37.6‏ مليار دولار سنويا‏,‏ من بينها حوالي‏17‏ مليار بسبب أخطاء كان من الممكن تلافيها وعدم الوقوع فيها‏.‏

وحول أسباب هذه الظاهرة قال المعهد أن من بينها الإدارة غير السليمة للممارسات الطبية نتيجة نقص المعلومات‏,‏ كوصف وتناول الأدوية بطريقة خاطئة نتيجة عدم كتابة الروشتات بطريقة سليمة في سجلات المرضي‏,‏ وأنه حينما يخضع المريض لعلاج من قبل أطراف متعددة فإنهم غالبا لا يعرفون المعلومات الكاملة عن الأدوية الموصوفة أو عن أمراض المريض‏,‏ كما أشار إلي أن ما يتراوح بين‏10‏ إلي‏15%‏ من أوامر الدخول للمستشفيات تعد بشكل خاطئ وتعتبر ذات علاقة بالأخطاء الطبية‏.‏

وفي تقرير‏(‏ منع الأخطاء الطبية‏)‏ تحدث المعهد عما أسماه‏(‏ الوفاة بخط اليد‏)‏ أو الوفيات الناجمة عن التداخلات الدوائية الضارة التي تنتج عن عدم القدرة علي كتابة وقراءة الروشتات الطبية بشكل سليم من قبل الأطباء‏,‏ مما يسبب تشويشا وعدم فهم ما بين الممرضات والصيدليات فيما يتعلق بنوعية الدواء وحجم الجرعات‏,‏ وأشار المعهد في هذا الصدد إلي أن الولايات المتحدة يصدر بها سنويا حوالي‏4‏ مليارات روشتة طبية‏,‏ معظمها يكتب بخط اليد بما فيه من أخطاء‏.‏

أما وكالة أبحاث الرعاية الصحية والجودة فقامت بعمل مسح للبيانات الإدارية للمستشفيات ذات العلاقة بسلامة المرضي خلال عامي‏2000‏ و‏2002‏ وذلك من واقع السجلات الطبية لحوالي‏37‏ مليون مريض‏,‏ وبناء علي هذا المسح أصدرت تقريرا تم تصميمه بناء علي ما يعرف بـ‏(‏ مؤشرات سلامة المرضي‏),‏ وقال التقرير إن حالات الوفاة الناجمة عن الأخطاء الطبية ربما يصل إلي‏195‏ ألف حالة خلال هذه الفترة‏,‏ وأن تكلفة هذه الأخطاء حوالي‏19‏ مليارا‏.‏

هنا نصل إلي النقطة المتعلقة بالعلاقة بين الأخطاء الطبية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات‏,‏ وفي هذا الصدد يمكن القول أن كل الجهات الأمريكية المعنية تكاد تكون قد اتفقت علي أن المخرج الوحيد من المشكلة هو تكثيف الاعتماد علي تكنولوجيا المعلومات والاتصالات داخل قطاع الرعاية الصحية بدءا من العيادات الخاصة والمؤسسات الصغيرة وحتي المستشفيات الكبري والجهات الحكومية في المستويات الأعلي المسئولة عن التخطيط والمتابعة والتشريع بالبيت الأبيض والكونجرس‏.‏

فمعهد البحوث الطبية أكد مرارا في تقاريره علي ضرورة إنشاء سجل طبي إلكتروني لكل مواطن أمريكي‏,‏ وأن تعتمد جميع المستشفيات ومؤسسات الرعاية الصحية في عملها علي هذه السجلات الإلكترونية‏,‏ وتقوم بإدخال كل البيانات الطبية إلكترونيا من أمر الدخول للمستشفي إلي الاختبارات المعملية للفحوص بالأشعة والتمريض وروشتات وملاحظات الأطباء‏,‏ لأن ذلك من شأنه أن يساعد بدرجة كبيرة في معالجة قضية الأخطاء الطبية‏,‏ ودعا الجهات الفيدرالية والمشرعين إلي التدخل‏.‏

وأكدت وكالة أبحاث الرعاية الصحية والجودة أنه خلال عامي‏200‏ و‏2002‏ كانت هناك حوالي‏575‏ ألف حالة وفاة من الممكن تفاديها في حالة وجود إدارة طبية تعتمد كلية علي المعلومات والمعرفة‏,‏ وأن المراحل العلاجية الفقيرة في الوصول إلي المعلومات الخاصة بالعلاج والرعاية الصحية كانت هي السبب المتكرر الأكثر أهمية في حدوث الأخطاء الطبية‏,‏ ولذلك يلزم الاعتماد علي نظم المعلومات لتقليل الأخطاء الطبية‏.‏

وفي عدد مارس‏2005‏ من مجلة الجمعية الطبية الأمريكية نشرت دراسة موسعة حول الأخطاء الطبية‏,‏ جاء فيها إن استخدام نظام إدخال بيانات المرضي آليا عبر الحاسبات وشبكات المعلومات قد سهل تفادي‏22‏ نوعا من الأخطاء الطبية الخطيرة‏,‏ من بينها ازدواج الجرعات الدوائية والروشتات الطبية والعلاجية المحتوية علي أخطاء‏.‏

وقال تقرير أصدرته شركة اكسافاريا المتخصصة في نظم إدارة المستشفيات أن المستشفي المكون من‏250‏ سريرا ويطبق حلول ونظم معلومات صحية متكاملة يمكنه توفير‏4‏ ملايين دولار في العام مقابل إنفاق‏400‏ ألف دولار لتغطية تكلفة المعدات والتركيب‏,‏ وهذا الخفض في التكلفة يأتي من التداول والإدارة السليمة للمعلومات داخل المستشفي‏,‏ والتي ينجم عنها أن يتلقي المرضي العلاجات الصحيحة والأدوية الصحيحة‏.‏

وفي مسح أجرته مؤسسة سكاي سكيب علي‏2800‏ من الأطباء والمعالجين قال‏72%‏ من المشاركين أن استخدام الأدوات اللاسلكية مكنهم من تقديم الرعاية الصحية بسرعة‏,‏ وقال‏84%‏ أنهم أحسوا بأن هناك فرصة كبيرة لتقليل الأخطاء الطبية‏.‏

وقد انعكس ذلك كله علي سياسات الرعاية الصحية التي تطبقها إدارة بوش‏,‏ فبدأت تتحدث عن عام‏2010‏ كنهاية للروشتات اليدوية الورقية وتعميم الروشتات الالكترونية‏,‏ ففي خطاب حالة الاتحاد الذي وجهه بوش إلي شعبه في فبراير‏2005‏ دعا جميع الجهات المعنية بالرعاية الصحية إلي العمل علي الوصول إلي تكنولوجيا معلومات محسنة لمنع الأخطاء الطبية والتكاليف التي لا نهاية لها‏,‏ واقترح برنامجا من عشر سنوات لتعميم ونشر السجلات الطبية الإلكترونية بكل الولايات المتحدة‏,‏ بحيث يكون لكل أمريكي سجل طبي إلكتروني بعد عشر سنوات‏,‏ وقال‏(‏ نحن لدينا الآن أدوية وعقاقير طبية رائعة للمساعدة في الحفاظ علي الحياة‏,‏ ولكن أطباءنا لا يزالون يكتبون السجلات الطبية بأيديهم‏,‏ ولذلك نحن نسعي لتفعيل السجلات الطبية الرقمية‏).‏

وإذا كان هذا هو الحال بالولايات المتحدة‏..‏ فما الحال لدينا ونحن نفتقد الكثير للغاية مما لديهم من وعي وتقدم علمي ومعلوماتي ونظم للمتابعة والرقابة والمحاسبة وتقويم الأداء؟

لن أخوض ـ كما قلت سابقا ـ في حديث جميعنا يتجرع مرارته ليل نهار‏,‏ لكن أقول إن قضية الأخطاء الطبية تكشف ولا شك الحاجة الماسة لإعادة هيكلة القطاع الصحي برمته ليعمل بمفهوم الإدارة القائمة علي المعلومات والمعرفة‏,‏ وهنا يكون السؤال‏:‏ كيف وما مراحل ذلك وما هي الخبرة العالمية في هذا الصدد؟‏..‏إلي الأسبوع المقبل‏.‏


جمال محمد غيطاس
ghietas@ahram0505.net

1 comment:

ibrahim alshandidy said...

في محاولة من صيادلة مصر والمهتمين من أبناءها بهذا الموضوع تم عمل مجموعة على الفايس بوك للمطالبة بتعميم الروشتة الإلكترونية

اسم المجموعة:
الصيادلة يطالبون بوقف كتابة الروشتات بالشفرة وتعميم الروشتة الإلكترونية

الرابط :
http://www.facebook.com/group.php?gid=150529909197#/group.php?gid=150529909197

نرجو من المسؤولين الإهتمام بهذا الأمر