Friday, November 17, 2006

نار أسعار المستشفيات‏..‏ مولود شرعي لنقص المعلومات

 

لا أعتقد أن هناك من ينكر وجود نار الأسعار المشتعلة بلا انقطاع بالمستشفيات ومؤسسات الرعاية الصحية وتشوي جيوب المرضي وأهلهم وأقاربهم‏,‏ فما من شخص دخل مستشفي أو حتي وحدة صحية إلا وخرج شاكيا باكيا ناقما غير فاهم لما دفعه من تكلفة‏,‏ اللهم إلا من رحم ربك أو جادت به واسطة أفرزتها ظروف القرابة أو تبادل المصالح أو حتي المصادفة في لحظة حظ‏,‏ والجميع يجد صعوبة بل استحالة في الحصول علي تفسيرات موضوعية ذات مرجعية تبرر ما يدفعونه من أموال مقابل ما يحصلون عليه من رعاية صحية‏,‏ هذا بافتراض أنهم كانوا يحتاجونها فعلا‏,‏ وقدمت لهم بشكل سليم‏,‏ والسائد في قضية التكلفة أننا جميعا ـ أو غالبيتنا الساحقة ـ مطأطئو الرءوس تحت نار أسعار مؤسسات الرعاية الصحية‏,‏ فنحن نؤمر فندفع صاغرين مكرهين مقتنعين أو غير مقتنعين دون أن تكون هناك جهة تحدد ما إذا كان ما ندفعه هو التكلفة العادلة لنا وللمستشفيات‏,‏ ولذلك فالنار مشتعلة والألم مستمر ولا حل في الأفق‏,‏ فما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه المعلوماتية في هذا الهم الوطني؟

يمكننا القول أن الدور المعلوماتي في ظاهرة نار الأسعار بالمستشفيات ودور الرعاية الصحية هو دور حيوي وحاسم لكنه غير مباشر إلي حد ما‏,‏ فالحاصل عالميا والمعترف به من قبل المؤسسات الدولية ـ كمنظمة الصحة العالمية وغيرها ـ أن عدالة التكلفة داخل المؤسسات الصحية مرهونة بقيام السلطات الصحية المختصة والمؤسسات الصحية بتوفير وتفعيل المعايير العلمية الدولية الخاصة بتقدير وتقييم تكلفة وجودة الخدمات الصحية‏,‏ ليتم علي أساسها مقارنة الأسعار والمستويات الفعلية للخدمة الصحية المقدمة من قبل المؤسسة الصحية مع التكلفة والجودة المقدرة لهذه الخدمة عالميا ووطنيا وفقا لهذه المعايير‏.‏

والمفترض أنه عند تفعيل هذه المعايير عمليا داخل مؤسسات الرعاية الصحية يتم رصد وتتبع وتحليل وقياس جميع أشكال الرعاية وتوثيقها معلوماتيا من منظور التكلفة والجودة الفعلية داخل المستشفي مقارنة بما يجب أن يكون عليه الأمر‏,‏ فمثلا لو كان تشخيص الطبيب للمريض أنه مصاب بالتهاب في اللوزتين‏,‏ فهذه المعايير تحدد علي الفور الزمن القياسي الذي ينبغي أن يقضيه الشخص في المستشفي‏,‏ والأدوية التي يفترض أن يتناولها وجرعاتها‏,‏ كما تقدم توصيفا دقيقا للجراحة التي ستجري له والتكلفة الإجمالية للعملية بما فيها من أدوية‏,‏ وبناء علي هذا لو طال زمن إقامة المريض في المستشفي عما تحدده المعايير أو تناول أدوية غير موصفة بها فإن هذه المعايير تبرز الخطأ أو التجاوز الذي حدث في الخدمة المقدمة للشخص‏,‏ ومن ثم تؤثر علي التكلفة أو المطلوب دفعه‏,‏

وبشكل عام تشمل هذه المعايير آلاف من القواعد والأكواد المختلفة من بينها‏:‏
ـ قواعد وأكواد توحد أسماء الأمراض وأعراضها وتأثيراتها علي المصاب‏.‏
ـ قواعد وأكواد تحدد أسلوب التعامل مع كل مرض وكل من الأعراض المصاحبة له‏.‏

ـ قواعد وأكواد تحدد أساليب التشخيص وتكاليفها وزمن إجرائها والأجهزة المستخدمة ومواصفاتها‏.‏
ـ قواعد وأكواد تحدد أساليب العلاج والجرعات التي يحصل عليها المريض من الأدوية المختلفة‏.‏

ـ قواعد وأكواد توصف بدقة وبالتفصيل خطوات جميع العمليات الجراحية التي تجري بالمستشفي ومواصفات غرف العمليات وما بها من أجهزة ومعدات‏,‏ وما تحتاجه العمليات من مستلزمات طبية مختلفة وكمياتها وأنواعها وتكاليفها‏,‏ والزمن الذي تستغرقه العملية‏.‏
ـ قواعد وأكواد تحدد أسماء جميع الأدوية والمستلزمات الطبية التي تستخدمها المنشأة وأوجه استخدامها وتكاليفها وضوابط استخدامها‏.‏

ـ قواعد وأكواد وبروتوكولات تنظم كيفية تخزين البيانات والمسميات المستخدمة في توصيف جميع التعاملات التي تتم مع المريض‏,‏ فلا يتم مثلا تخزين المعلومة الخاصة بالصداع في أنه ألم في الرأس في أحد المستشفيات‏,‏ بينما تخزن مستشفي آخر المعلومة علي إنها وجع بالرأس‏.‏

ومن أبرز المعايير المطبقة عالميا مجموعة معايير تعرف باسم‏(‏ إتش إل‏7)‏ الخاصة بتسهيل تبادل المعلومات بين المستشفيات وبعضها البعض‏,‏ ومجموعة معايير‏(‏ أي سوي دي‏10)‏ الخاصة بالتشخيصات الطبية‏,‏ والتي تضع خطوات تفصيلية خاصة بكل عملية تشخيص وزمن وكيفية إجرائها وكيفية تخزين البيانات الخاصة بها‏,‏ ومجموعة معايير‏(‏ دي آر جي‏)‏ التي تضم مجموعة ضخمة من المعلومات المرتبطة بالتشخيص‏.‏
هذا فيما يتعلق بقضية المعايير‏..‏ فأين يكمن دور المعلومات وتكنولوجياتها المختلفة؟

يتطلب تفعيل هذه المعايير عمليا وجود حجم ضخم ومنظم من المعلومات عن كل ما يجري بالمستشفي‏,‏ بل يمكننا القول أن هذه المعايير في جوهرها ليست سوي إدارة منسقة للمعلومات المتوافرة بالمستشفي بهدف إعادة عرضها من زوايا تحقق الربط بين التكلفة والجودة وما قدم فعليا للمريض‏.‏

وحينما سعت السلطات الصحية في الكثير من دول العالم لوضع هذه المعايير موضع التنفيذ‏,‏ كان الأمر يتم من خلال نظم دفترية تجري مراجعتها علي الورق‏,‏ ومع الوقت أصبحت كمية المعلومات الموجودة في هذه المعايير ضخمة للغاية وتحتاج إلي وسائل سريعة لفهرستها وتبويبها وسهولة الوصول إليها وعرضها‏,‏ ومن ثم لم يكن هناك مفر من الاستعانة بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وأدواتها المتنوعة في جمع وتخزين وفهرسة وتنظيم وإدارة وتحليل البيانات والمعلومات‏,‏ فظهرت نظم معلومات وبرمجيات متخصصة تستخدمها الجهات المسئولة عن عمليات المراقبة والضبط وتصحيح المسار وتستخدمها المستشفيات ومؤسسات الرعاية الصحية لتوثيق وتسجيل وضبط ما يجري بداخلها من منظور التكلفة والجودة‏,‏ وعند المراجعة يتم استخدام هذه البرمجيات والنظم في فحص البيانات الموجودة بقواعد بيانات المستشفي أو المنشأة ومراجعة بروتوكولات العلاج والإجراءات التي اتبعت في الرعاية الصحية والتكاليف التي تحملها المريض‏,‏ فمثلا لو أن المعايير تحدد أن جراحة القلب المفتوح يجب أن تتم في زمن معين‏,‏ وقام المستشفي بتسجيل زمن أطول وحمل المريض بتكاليف إضافية‏,‏ فهنا يجب أن يقدم نظام إدارة المستشفي تفسيرا مقبولا وموثقا لذلك أو يتم حساب هذه الإطالة في زمن العملية كخطأ من المستشفي في حق المريض‏,‏ ولو قام المريض بزرع عدسة في العين وقال المستشفي أن تكاليف الزرع تساوي ألف دولار مثلا‏,‏ فلابد أن يوفر نظام التشغيل في المستشفي معلومات عن العناصر التي تجمع منها الألف دولار‏,‏ وهل استخدم المستشفي عدسة من النوع الممتاز وزرعها له ومن ثم يكون الألف دولار في محلها أو عدسة من النوع العادي الأقل سعرا وحملها علي المريض باعتبارها من النوع الممتاز‏,‏ وتقوم برمجيات ضبط التكلفة والجودة بتعقب هذه الأمور عبر نظام المعلومات العام لإدارة المستشفي من خلال أوامر الشراء والتوريد وغيرها‏.‏

وهكذا‏..‏ فإن التعامل مع ظاهرة نار الأسعار من منظور المعايير الدولية لتقدير التكلفة استنادا إلي البنية المعلوماتية السليمة يمكن أن يقودنا إلي نتائج مغايرة تماما تخفف أو تلطف وقد تطفيء لهيب نار الأسعار المشتعلة بلا انقطاع‏,‏ فهذا المنظور سوف يجعل الأمور داخل المؤسسات الصحية تدار وفقا لقاعدة أعلي جودة ممكنة بأقل تكلفة ممكنة تحقيقا لأعلي درجة ممكنة من العدالة بين المريض والمستشفي‏.‏

من ناحية أخري فإن التوظيف الجيد لتكنولوجيا المعلومات يخفض من تكاليف التشغيل وتكاليف المستلزمات الطبية من خلال تحسين استخدام الموارد المتاحة والسيطرة علي الموارد‏,‏ فعلي المستوي المحلي ثبت من بعض المشروعات التي طبقت بالمستشفيات الخاصة أن وجود البنية المعلوماتية والمعايير القياسية الدولية داخل المستشفي يوفر ما لا يقل عن‏30%‏ من الميزانيات المخصصة للمستلزمات العلاجية والأدوية‏,‏ وقد ثبت أن استخدام الملف الطبي للمرضي يؤثر علي خفض فترة الإقامة بالمستشفيات من‏15%‏ إلي‏20%‏ عنها في حالة عدم توفر بيانات بالملف الطبي‏,‏ وهو أمر يخفض التكلفة علي المريض والمستشفي معا‏,‏ فالعلاج يبدأ دائما بالتشخيص ووجود الملف الطبي يجعل الطبيب المعالج يقرأ تاريخ المرض ويتبقي لديه إجراء الفحوصات اللازمة للتأكد من الحالة وليس بحثها بصورة عامة مما يقلل من الوقت والتكلفة‏,‏ وعند صرف الدواء أو المستلزمات الطبية يعتد فقط بما تم تسجيله وإدراجه بالسجل الطبي للمريض‏,‏ وأي مهمات أو مستلزمات تخرج من الصيدليات أو المخازن ولا تستخدم ولا تدرج تظل عهدة لدي القائمين علي المخزن أو الصيدلية‏,‏ وهذه ليست سوي لمحات سريعة عن المنظور المعلوماتي لقضية الأسعار داخل المستشفيات‏.‏

وفي ضوء ما سبق وما هو سائد علي أرض الواقع يمكنني القول أنه ليس بمقدور أحد في مصر حاليا ـ بما في ذلك قيادات وزارة الصحة ووزيرها ـ أن يقدم إجابات مقنعة عن الأسئلة الخاصة بالتكلفة والأسعار‏,‏ لأن نيران الأسعار بمستشفياتنا هي مولود شرعي لحالة نقص المعلومات‏,‏ وهي حالة يهملها النهج السائد بالوزارة‏,‏ لأنه تارة يرجع نيران الأسعار إلي نقص الموارد وتارة أخري لفساد الضمائر ومرة ثالثة لنقص الخبرة وسوء الإدارة‏,‏ ولا يلتفت مطلقا إلي دور المدخل أو المنظور المعلوماتي السابق في حل هذه القضية‏,‏ فضلا عن أن ضبط الجودة ـ بما في ذلك جودة التكلفة والأسعار ـ هي ثقافة غائبة وغير معروفة أصلا للوزارة وأجهزتها ومؤسساتها‏,‏ ولعل أبرز دليل علي ذلك أننا لم نسمع من قبل عن أن وزارة الصحة أجرت تقييما موثقا بالمعلومات ومستندا إلي المعايير العالمية السابقة لتقصي مدي التوافق والعدالة بين أشكال الرعاية الطبية المقدمة في أي مؤسسة صحية والسعر المدفوع فيها من قبل المرضي‏,‏ الأمر الذي فتح الباب علي مصراعيه أمام تفشي نار أسعار المستشفيات حتي تحولت إلي هم وطني عام‏.‏


جمال محمد غيطاس
ghietas@ahram0505.net

No comments: