Thursday, October 26, 2006

قراءات معلوماتيه لهموم مصريه‏(4)‏ مشكلات الرعايه الصحي

يعتبر القطاع الصحي في مصر نموذجا صارخا لحاله الفريضه المعلوماتيه الغائبه فالموسسات الصحيه علي اختلاف نوعياتها وتبعيتها وملكيتهاتركز في عملهاغالبا علي اقامه المباني وشراء التجهيزات والمستلزمات وتوفير الكوادر الطبيه‏,‏ لكنها نادرا ما تلقي بالا او تهتم بجوده وكم وتوقيت المعلومات التي يتعين تدويرها وتداولها بين هذه المفردات في مراحل التخطيط والبناء والتشغيل وتقديم الرعايه الصحيه‏,‏ ولذلك ليس هناك تقريبا مواطن بمناي عن الوقوع تحت طائله الاداء الطبي متدهور المستوي او خاطيء الاتجاه او الغائب عن الساحه وقت الحاجه‏,‏ وهو امر يترجم عمليا في نوعيات شتي من المتاعب التي تتراوح بين الاختلاف في نتائج التحاليل والتقديرات الجزافيه لتكلفه العلاج‏,‏ وتنتهي باخطاء التشخيص والعلاج والتمريض التي قد تجرف المريض من طريق الشفاء وتلقي به في هوه الوفاه‏,‏ وهكذا تحولت الرعايه الصحيه الي واحد من ابرز الهموم المصريه التي تجذرت وتشعبت حتي اصبحت مشكله غير تقليديه لكننا لا نزال نتعامل معها بحلول تقليديه حافله بنقاط ضعف ابرزها تجاهل البعد المعلوماتي للقضيه‏.‏

الحاصل ان هناك الكثير من الحوادث التي تقع علي مدار اليوم في العديد من الموسسات الصحيه ويعايشها قطاع كبير من المواطنين وتقدم دليلا علي غياب البعد المعلوماتي في الرعايه الصحيه‏,‏ فمثلا منذ اسابيع دخل شخص مصاب بازمه قلبيه ناتجه عن جلطه احد مستشفيات مصر الجديده وهو في حاجه ماسه الي التدخل الفوري‏,‏ لكن الاطباء اكتفوا بمراقبته وهو علي حافه الموت‏,‏لان حالته كانت تحتم الانتظار لحين الحصول علي معلومات عما اذا كان قد تعاطي ادويه مسيله للدم ام لا قبل هذه الازمه‏,‏ ولانقاذ الموقف اندفع اهل المريض في سباق مع الزمن الي المستشفي الذي عولج فيه من قبل بالمعادي للحصول علي تقرير بحالته الطبيه يوضح الادويه التي تعاطاها في الايام السابقه‏,‏ وبعد خمس ساعات من البحث عاد الاهل بالمعلومات وبدا العلاج الفعلي‏.‏

وهذه ليست سوي واحده من المواقف والمتاعب الصعبه والحرجه التي يتعرض لها مئات المواطنين يوميا‏,‏ وتتراوح بين الوعكات البسيطه وحوادث السيارات المميته‏,‏ والغالبيه العظمي من هولاء ان لم يكونوا جميعا يصلون الي المستشفيات ومراكز تقديم الرعايه الصحيه بلا معلومه واحده عن تاريخهم الطبي‏,‏ يسترشد بها الاطباء المعالجون واطقم الاستقبال في المستشفيات خلال الدقائق الاولي الحرجه التي تعقب وصولهم للمستشفي والتي تعتبر فاصله وحاسمه في رحله العلاج‏,‏ فالطبيب يتعامل مع مريض بلا هويه صحيه‏,‏ فلا يعرف مثلا ان كان مصابا بالسكر او الضغط او سيوله في الدم ام لا‏,‏ وهل لديه حساسيه خاصه من بعض ادويه التخدير‏,‏ وهل تعرض لاصابات سابقه فقد فيها الوعي‏,‏ وهل تناول ادويه ما قبل وصوله المستشفي ويحتمل ان تتعارض مع الادويه التي يحتاجها‏,‏ الي غير ذلك من المعلومات التي توثر في قرارات الطبيب وطريقه تعامله مع المصاب‏.‏

وبسبب غياب هذه المعلومات التي لا يهتم ولا يتلفت احد لضروره توفيرها بمستوي معقول كما وجوده باتت نسبه لا يستهان بها من مصابي الحوادث والطوارئ المختلفه تتعرض لاثار جانبيه او تحرم من فرصه الحصول علي العلاج المناسب‏,‏ بل وقد تتوقف حياه او وفاه البعض منهم علي معلومه ناقصه لا يستطيع النظام الصحي الحالي ان يضمن توفيرها للاطباء في اللحظات الحرجه‏.‏

في واقعه اخري كان هناك مريض في اسوان تعرض لنزيف بالمخ‏,‏ لكن الاطباء المحليين توقفوا عن عمل اي شيء‏,‏لان حالته جعلت من الضروري عرضه بسرعه علي اخصائي خبير في امراض المخ يوجد بالقاهره‏,‏ والمشكله ان حاله المريض لم تسمح بالحركه‏,‏ ومن ثم واجه خطر الوفاه علي الرغم من انه كان ممكنا انقاذه من الموت لو استطاع الاخصائي مناظره حالته واصدار قرار صائب في الوقت المناسب بالعلاج المناسب‏,‏ وهكذا تعرض هذا المواطن للوفاه بسبب عجز النظام الصحي الحالي عن نقل المعلومات الخاصه به من مكانه باسوان لمكان اخر يوجد به الطبيب القادر علي التشخيص والعلاج‏.‏

من ناحيه ثالثه‏..‏ نحن نسمع كثيرا عباره توفي المصاب قبل ان تصل سياره الاسعاف‏,‏ او تاخرت الاسعاف في الوصول بالمصاب للمستشفي فتعذر علاجه علي الوجه الاكمل‏,‏ وفي مثل هذه الحالات عاده ما يكون السبب ان الشوارع مزدحمه‏,‏ وان قائد سياره الاسعاف تنقطع صلته بقيادته داخل مركز الاسعاف وموقع المصاب منذ لحظه خروجه من باب المركز‏,‏ ثم يسير بعد ذلك في الشوارع ويدخل صراعا مع الاف السيارات التي تزاحمه اثناء السير‏,‏ باحثا عن عنوان المصاب اعتمادا علي خبره ذاتيه‏,‏ ووصفات اهل الخير‏,‏ فيتخبط من حاره لشارع حتي يصل لهدفه بعد فوات الاوان‏,‏ وسائق الاسعاف معذور في هذا الفشل‏,‏ فهو منذ لحظه خروجه من المركز لم يعتمد علي معلومه واحده موثقه وصحيحه تشرح له اقصر الطرق الي الهدف واكثرها سيوله وسرعه‏,‏ ولم يكن لديه من يجدد له هذه المعلومات لحظيا اثناء السير ويصحح مساره ويجعله يتفادي المسارات المزدحمه‏.‏

ومنذ فتره قريبه عايشت تجربه شخصيه لطفلين من العائله كلاهما كان يحتاج الي عمليه استئصال اللوزتين‏,‏ فدخلا مستشفيين بالقاهره في اسبوع واحد‏,‏ واجريت الجراحه للاثنين‏,‏ فدفع الاول الف جنيه ودفع الثاني مائه جنيه‏,‏ علي الرغم من كون المستشفيين يقعان في مربع سكني واحد‏,‏ ومع الاخذ في الاعتبار الاختلافات بين المستشفيين فنحن لا نستطيع استبعاد المغزي الذي يتخفي وراء التفاوت الرهيب في السعر ما بين مائه والف جنيه‏,‏ وهنا لا يسعني سوي القول ان هذا التفاوت انما يدل علي وجود تفاوت رهيب في المعايير التي تطبقها المنشات الصحيه بمصر‏,‏ فكل منشاه وضعت لنفسها معاييرها الخاصه التي يتم علي اساسها تقدير التكلفه والحكم علي النتيجه وتقييم جوده الخدمه‏,‏ مما جعل من النادر للغايه ان يقدم احد تفسيرا محايدا مقنعا لتفاوت فاتوره العلاج بين مستشفي واخر‏,‏ او التوصل الي اسباب موضوعيه لا لبس فيها حول اسباب نجاح او فشل الخدمه الصحيه المقدمه للمرضي‏,‏ والمصيبه لا تتوقف عند غياب المعايير الموحده في تقدير التكلفه بل تتجاوز ذلك الي انعدام المعلومات حول المعايير المطبقه بمنطق الامر الواقع‏,‏ وقد لا نكون مبالغين اذا قلنا انه لا يوجد كيان موسسي بالقطاع الصحي تابع للدوله او لاي جهه رقابيه متخصصه لديه معلومات كافيه عن هذه المعايير وعن كيفيه تطبيقها علي المواطنين‏,‏ بل ربما لا يكون هناك اصلا من يهتم بتجميع وفهرسه وتنظيم هذه المعلومات واستخدامها في متابعه اداء المستشفيات‏.‏

واذا ما واصلنا القراءه المعلوماتيه وحاولنا البحث عن مدلولات هذه الحوادث علي المستوي القومي العام سنجدها تقودنا الي نتيجه موداها ان مرفق الرعايه الصحيه لا يزال يدار باساليب تعجز عن تقديم المعلومات الصحيحه والدقيقه التي تتطلبها ظروف العلاج والرعايه الصحيه لكل مريض في الوقت المناسب‏,‏ وان المرفق بوحداته المختلفه كالمستشفيات والوحدات الصحيه الحكوميه والاستثماريه والخاصه والتعليميه والتامين الصحي وغيرها يفتقر الي نظام معلومات قومي قوي يسهل التعامل معه والسيطره عليه‏,‏ ويربط جميع هذه الجهات معا‏,‏ ويوفر طريقا سريعا تتدفق فيه المعلومات الصحيه بين المرضي والاطباء والمسئولين بالحكومه وقطاع الدواء والباحثين في الجامعات والموسسات العلميه وغيرها بسرعه ودقه ليجري توظيفها في تحسين مستوي الرعايه الصحيه بالبلاد ككل‏,‏ وفي ضبط الاداء وتقليل السلبيات في جميع المستشفيات والوحدات الصحيه عن طريق المراقبه المركزيه عن بعد‏.‏

بشكل اكثر تحديدا يمكننا القول ان غياب القراءه المعلوماتيه للمشكلات الصحيه قد زج بمرفق الرعايه الصحيه الي مربع يجعله عاجزا تماما او يواجه قصورا شديدا في بعض الجوانب الاساسيه المتعلقه بالرعايه الصحيه المقدمه للمواطنين ومنها‏:‏

ان هناك عجزا كاملا وربما قصورا شديدا في وضع معايير موحده لتقدير تكاليف الرعايه الصحيه‏,‏ ولو طلب احد معلومات يتم علي اساسها تقدير تكاليف اجراء جراحه الزائده الدوديه علي مستوي البلاد فالاغلب انه لن يجد‏.‏

ليست هناك ضمانه لان تصل سيارات الاسعاف الي اماكن الحوادث في وقت اقصر كثيرا مما يحدث حاليا‏.‏

ليس بامكان المواطن ان يدخل المستشفي او العياده الخاصه فيحصل علي العلاج ثم يخرج ومعه تقرير يحتوي علي معلومات صحيحه ترصد بدقه كل ما حدث له‏,‏ ويستطيع ان يحاسب به المستشفي امام جهات القضاء وشركات التامين والجهات الرقابيه الحكوميه اذا لزم الامر‏.‏

ليس سهلا ان يعرف الاطباء في مستشفيات الطوارئ والحوادث التاريخ الصحي للمصابين بالتفصيل لحظه وصولهم للمستشفيات‏.‏

لا يمتلك المخططون الصحيون بهذا القطاع معلومات كافيه ودقيقه عن خريطه انتشار الامراض بالبلاد ولا خريطه دقيقه عن الموارد المتاحه للرعايه الصحيه من اجهزه ومستلزمات‏,‏ ودليلنا في ذلك تصريحات وزير الصحه خلال الاسبوعين الماضيين حول مشروعات حصر الاجهزه الطبيه عاليه القيمه وبناء قاعده بيانات حولها وعن مشروع دراسه معدلات انتشار مرض الالتهاب الكبدي الوبائي سي‏.‏

وخلاصه ما يمكن الخروج به من ذلك كله ان مرفق الرعايه الصحيه غارق حتي النخاع في الاعتماد علي اسلوب الاداره بالمباني والمعدات والخبرات في مواجهه مشكلات لا مخرج لها الا باسلوب‏(‏ الاداره بالمعلومات‏),‏ وهذا تناقض صارخ في منهجيات المواجهه لا يتناسب مع مقتضيات العصر ولا مع التحديات القائمه‏.‏


جمال محمد غيطاس

No comments: