في فيلم سينمائي ظهر منذ عدة سنوات, قامت مجموعة إجرامية ـ وهي في مكانها علي الأرض ـ باختراق نظام معالجة وعرض المعلومات بإحدي الطائرات أثناء استعدادها للهبوط, وتمكنوا من إدخال معلومة خاطئة عن ارتفاع الطائرة عن أرض المطار وأظهروها أمام الطيار, مما جعله يخطئ في حساب ارتفاعه عن سطح الأرض, فهبط بسرعة كبيرة لأسفل ليفاجأ بأرض المطار أمامه فاصطدم بها وانفجرت الطائرة, وعلي الرغم من أن هذه المشاهد لم تستغرق سوي دقائق علي الشاشة فإنها قدمت تفاصيل معركة معلوماتية مكتملة الأركان,
جرت بين نظام إدارة وعرض المعلومات داخل الطائرة ونظام معلومات الاختراق والتضليل الذي استخدمه المهاجمون, وحينما انهار نظام معلومات الطائرة أمام نظام معلومات الاختراق, جري تمرير المعلومة الخاطئة للطيار في وقت قاتل فحدثت الكارثة, وهكذا قدم الفيلم نموذجا مثاليا للقراءة( المعلوماتية) لكيفية وقوع كوارث رهيبة في عالم النقل والسفر, والحقيقة أننا لو دققنا النظر( معلوماتيا) فيما جري من حوادث النقل الأخيرة بمصر سنكتشف أن الأمر لا يخرج عن جوهر الفكرة الأساسية التي ساقها سيناريو الفيلم, فنحن في النهاية أمام كيانات مؤسسية تعيش حالة( ضبابية معلوماتية) يتولد عنها معارك( معلوماتية) لا تستطيع الانتصار فيها, فتغرقها وتغرقنا جميعا في كوارث مؤلمة.. كيف؟
إذا كان الفيلم قد أظهر أن هناك مجموعة إجرامية تعمدت إفساد المعلومات أمام الطيار, فإننا في حوادث عبارة سفاجا وقطارات قليوب لم نكن قطعا أمام إجرام متعمد, ولكن أمام منظومات معلوماتية بلغت من الاهتراء والتدني حدا أفرز حالة من حالات( الضبابية المعلوماتية) التي خلفت نتائج لم تختلف جوهريا عما قدمه الفيلم, ففي النهاية نحن أمام طائرة تنفجر وباخرة تغرق وقطارات يهشم بعضها البعض وتهرس ركابها.
بشيء من التفصيل أقول إنه في حالة العبارة السلام98 كان ثمن الساعات القليلة الفاصلة بين غرق العبارة فعليا ووصول معلومة الغرق لجهات الإغاثة هو الزج بأكثر من1000 شخص إلي قاع البحر ليلاقوا حتفهم, وكان تأخر وصول هذه المعلومة في توقيتها المناسب للجهات المفترض أن تصل إليها هو أول دليل علي اهتراء منظومة المعلومات داخل أجهزة الموانئ وهيئة السلامة البحرية والشركة المسئولة وجهات الإنقاذ والإغاثة وبقية أجهزة وزارة النقل, وهو ما تأكد في الساعات والأيام اللاحقة بشكل كان أقرب إلي اللطمة القوية علي وجه جهود التحول لمجتمع المعلومات التي لا يمل البعض من تكرارها ليل نهار.
ليقل لي أحد: أين كانت المعلومات الدقيقة المتعلقة بالعبارة, بدءا من المعلومات الأساسية عن حالتها الفنية منذ لحظة شرائها, ثم وصولها للمياه الإقليمية المصرية ثم التفتيش عليها ومراجعتها والتصريح لها بالعمل؟ ومن حصل علي هذه المعلومات؟ وهل احتفظ بها لنفسه أم قام بتمريرها للجهة المعنية, هل كانت هذه المعلومات دقيقة أم مضللة, وحينما وصلت للجهات المسئولة ماذا فعلت بها هل قامت باعتقالها وتخزينها أم تجاهلتها أم تعاملت معها كما ينبغي؟
وحينما رقصت العبارة رقصة الموت وتأخرت عن موعد وصولها لسفاجا.. لماذا لم ترسل رسائل استغاثة تحمل معلومة الغرق في التوقيت المناسب؟ ولماذا لم تصل الي الجهات المعنية في موعدها؟ ثم كيف تصل معلومة الغرق لأحد مراكز الطوارئ البريطانية بأقصي شمال الكرة الأرضية ولا تصل للموانئ المصرية التي تقع علي بعد عشرات الأميال من موقع الغرق؟
أليس أمرا مؤسفا أننا في زمن الحديث ليل نهار عن مجتمع المعلومات ولا نزال غير قادرين علي نقل معلومة استغاثة من سفينة تغرق بـ1400 شخص لمسافة90 ميلا او أقل قليلا في توقيت مناسب؟ أليست فضيحة أن يقوم الميناء بالنداء علي السفينة حينما تأخرت عن موعد وصولها بعدة ساعات فلا ترد ثم لا يعتبر ذلك معلومة لها دلالة تستدعي التحرك؟.
إننا حينما ننظر للكيفية التي تمت بها إدارة المعلومات في هذه الكارثة منذ البداية للنهاية نجد أن دراما العبارة تقدم مشهدا معلوماتيا بالغ البؤس والفقر, ففي البداية حينما توافرت بعض المعلومات حول العبارة لم نقم بترجمتها وتفعيلها في صورة قرارات علي الأرض ترحم الفقراء وتنقذ رءوس الأبرياء من الموت والأطفال من اليتم, بل قمنا باعتقالها وحجبها عن العيون والتغاضي عنها, فالواضح مما نشر عقب الحادث أنه كان لدي الهيئات المعنية معلومات غزيرة مؤكدة عن تهالك العبارة وتقادمها وسوء إمكاناتها وانتهاء عمرها الافتراضي وعدم كفاءة أجهزة السلامة عليها, لكن ما حدث أن هذه المعلومات اعتقلت وحجبت وأهملت تحت وطأة زواج المال بالسلطة, فقد نشرت إحدي الصحف معلومة تقول أن وزير النقل السابق احدث تغييرا في بعض اللوائح والقوانين بما يسمح لهذه العبارة وغيرها بالعمل, وهذه المعلومة بالذات تؤكد أن المعلومات التي توافرت لدي الجهات المعنية جري توظيفها عمليا بشكل عكسي, أي استخدمت المعلومة في لي ذراع اللوائح لتتلاءم مع حالة العبارة, بدلا من استخدامها في إخراج العبارة من الخدمة.
وفي مرحلة الغرق لم تكن لدينا معلومات, فالثابت أن الجميع لم تتوافر له معلومة في توقيت مناسب حول لحظة الغرق, وأن معلومة الغرق لم تتوافر ويتنبه لها الجميع إليها إلا بعد مرور أكثر من ست ساعات, وبعد الغرق وأثناء جهود الإنقاذ عشنا مرحلة المعلومات المضللة والمنقوصة والخاطئة بل والمدمرة, فقد ظل آلاف البسطاء من أهالي ركاب العبارة ينتظرون بلهفة لساعات طويلة في ظل أجواء قاسية أي معلومة عن ذويهم تريح نفوسهم المكدودة المكتوية بنار الخوف علي الأب والابن والأخ والزوجة القادمين من الغربة, ورأينا كيف كان الفشل في توفير المعلومات لهؤلاء فشلا ذريعا بأنياب لا تعرف الرحمة, فبدلا من أن يتلقي الأهالي الملهوفون معلومات عن ذويهم, تلقوا ضربات من هراوات الأمن علي رءوسهم لأنهم تجرأوا وصرخوا من الألم وتدافعوا عفويا مدفوعين بألمهم وجراحهم نحو بوابة الميناء.
وحينما تلقي قساة القلوب لوما وتقريعا علي ما فعلوه مع الأهالي, قاموا بتقديم المعلومات بالقطارة علي طريقة( سفاجا القاهرة رايح جاي), فجزء كبير ممن كانوا ينتظرون معلومة عن ذويهم علي رصيف الميناء فوجئوا بمن يقذف في وجوههم بدم بارد بمعلومة تقول إن جثث ذويهم خرجت من الميناء وذهبت لمشرحة زينهم بالقاهرة وعليهم الذهاب لمتابعتها هناك, فقطع المساكين المسافة من سفاجا للقاهرة ليفاجأ بعضهم بخطأ المعلومة وأن الجثمان الذي يبحث عنه لايزال في سفاجا.
إذا وضعنا ذلك كله أمام التعريف الذي سقناه الأسبوع الماضي لمفهوم( القراءة المعلوماتية للأحداث) سنجد أننا في هذه الحادثة أمام منظومة معلومات في وزارة النقل سمحت بأن يتم إنتاج البيانات الخاصة بحالة العبارة ثم اعتقالها في نطاق أضيق كثيرا من نطاق استخدامها, ثم إعادة توليدها في صورة معلومات جري تضليلها ثم الدفع بها بعد تضليلها لكي يتم توظيفها وفقا لما فيها من تضليل, وكانت النتيجة اتخاذ قرار بإبحار العبارة رغم ما فيها من عيوب فنية, وفي ساعات الغرق عجزت هذه المنظومة عن توفير ممر آمن وسريع وفعال ينقل معلومة الغرق للجهات المعنية.
والصورة ليست مختلفة كثيرا حينما ننظر إلي حوادث القطارات نظرة( معلوماتية), فالحوادث وقعت نتيجة( لخبطة قرارات) في لحظات قاتلة من جانب السائقين وعمال البلوكات والتحويلات جميعها ناشئ عن( ضبابية المعلومات) المتاحة لديهم سواء كانت الضبابية ناشئة عن النقص أو الخطأ وعدم الدقة من مصدر توليد المعلومة الذي هو في هذه الحالة نظام الإشارات أو الاتصالات أو المراقبة والتحكم في القطارات, أو ناشئة عن عدم الدراية الكافية بتحويل المعلومة إلي قرار نتيجة نقص التدريب والتأهيل لدي السائق أو عامل التحويلة.
ومثل هذه الصور الطافية علي السطح تقف هي الأخري علي رأس منظومة معلومات مهترئة داخل السكك الحديدية, يفترض أنها مسئولة عن إدارة المعلومات الخاصة بالتوصيف الكامل لحالة القضبان والجرارات والإشارات ونظم التشغيل والصيانة ومستوي التدريب لدي العمال وأعداد الركاب وتفضيلاتهم والتجمعات السكانية التي تخدمها السكك الحديدية والكباري والطرق المتقاطعة مع السكك الحديدية وغيرها, والواضح أن هذه المنظومة غير مهيأة للتعامل مع هذا الفيض من المعلومات التي لابد وأن يكون بعضها ثابتا لا يتغير وبعضها متغيرا ويحتاج تحديثا طوال الوقت, وهذا يعني ان المكون المعلوماتي بهيئة السكك الحديدية الذي يعتبر( الجهاز العصبي) لعمليات التشغيل يشكل حاليا نقطة ضعف خطيرة تؤثر علي أداء الهيئة ككل, ومن ثم فإن هذا المكون يتطلب خططا استهدافية متخصصة ومستقلة لتطويره ليضمن إدارة المعلومات داخل هذا المرفق بشكل كفء طوال الوقت, ويضمن ايضا مراقبة كفاءة النظام الإداري ونظام التدريب وقواعد نزاهة وشفافية المعلومات وضوابط تدقيقها وأمانة نقلها وتصحيح مسارات توظيفها وعقوبات عدم تفعليها وتوظيفها علي النحو الأمثل.
هكذا تقودنا القراءة المعلوماتية لحوادث العبارات والقطارات إلي القول بأن منظومات المعلومات الحالية بوزارة النقل هي منظومات بيروقراطية عتيقة لا تكترث بالمعلومات ولو اكترثت لا تدقق ولو دققت تعتقل وتحجب ولا تتيح, ولو أتاحت لا توفر البيئة المناسبة للتوظيف والاستفادة, وإذا ما استمرت هذه المنظومات بحالتها الحالية فسنظل نواجه الموت السريع إما غرقا في سفينة خردة أو حرقا في قطار متهالك أو هرسا علي الإسفلت فوق طريق تسكنه العشوائية, ليظل المواطن المصري إلي ما لا نهاية ضحية لضبابية المعلومات بوزارة النقل وأجهزتها.
ghietas@ahram0505.net
No comments:
Post a Comment