Wednesday, March 28, 2007

تجربة مهمة في إدارة العلاقة مع الشريك الأجنبي


بقلم جمال غيطاس :
http://ait.ahram.org.eg/Index.asp?DID=9168&CurFN=MAKA0.HTM

دعاني منذ فترة المهندس عاطف حلمي ـ الذي افتتح وأدار فرع شركة أوراكل العالمية للبرمجيات بمصر طوال حوالي عشر سنوات وقفز به قفزات متلاحقة وقوية قبل أن يتركه أخيرا ـ لزيارة مركز أوراكل العالمي للدعم الفني بالقرية الذكية‏,‏ وكنت قد تابعت خلال السنتين الماضيتين مراحل المخاض والميلاد التي مر بها هذا المركز لكن لم تتح الفرصة لزيارته بعد ذلك‏,‏ وبعد الزيارة والاستماع لتفاصيل كثيرة حول ما وصل إليه أستطيع القول أننا أمام تجربة مهمة في إدارة العلاقة مع الشريك الأجنبي بقطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات‏,‏ تحمل الكثير من المعاني والأبعاد التي طالما بحثنا عنها وطالبنا بها ولا نزال نفتقدها في الغالبية الساحقة من الأحيان‏.‏

ثمة نقطة أساسية يجب الإشارة إليها أولا عن طبيعة هذه العلاقة قبل الخوض في تفاصيل التجربة‏,‏ فالملاحظ أن مصر مصنفة حتي الآن لدي غالبية الشركاء الأجانب كمكان لبيع وتسويق المنتجات وخدمات ما بعد البيع وليس كشريك في الاستثمارات الكثيفة طويلة الأجل وعميقة الخبرة‏,‏ ويعود هذا التصنيف في المقام الأول إلي أن معظم السياسات المطبقة في هذا المجال منذ فترة طويلة وما يدور في فلكها من مشروعات صممت ونفذت انطلاقا من فكرة أن مصر سوق تجارية غاية تعاملاتها مع الشريك الأجنبي أن تتلقي ولا تبدع وتشتري ولا تشارك ولا تنجز قيمة مضافة نابعة من الذات‏,‏ وهو تصور نابع بالأساس من الانهزام الداخلي وفقدان الثقة بالنفس وعدم الاقتناع بالقدرة علي التحدي‏,‏ وكلها أشياء تقود ـ إن لم يكن قد قادت بالفعل ـ إلي حالة من التبعية القائمة علي رد الفعل تجاه ما يفعله الشركاء الأجانب‏.‏

في ضوء هذا السياق العام للعلاقة مع الشركاء الأجانب يأتي الحديث عن أهمية تجربة مركز الدعم الفني العالمي لأوراكل بالقرية الذكية‏,‏ فأوراكل ـ كما هو معروف ـ تنتج برمجيات ونظم معلومات وقواعد بيانات مخصصة لإدارة العمل بالمؤسسات والمنشآت‏,‏ بدءا من الشركات الصغيرة وانتهاء بالمؤسسات العملاقة المتعددة الجنسية‏,‏ ومنذ نشأتها وحتي الآن أصبح لديها قائمة تضم مئات الآلاف من الشركات والمؤسسات التي تعمل ببرمجياتها حول العالم وتحتاج طوال الوقت إلي دعم فني عالي المستوي لحل ما يقابلها من مشكلات تتعلق بتشغيل وصيانة وتطوير برمجيات أوراكل الموجودة لديها‏.‏

وللتعامل مع هذه الاحتياجات أنشأت أوراكل سلسلة مكونة من ثمانية مراكز عالمية للدعم الفني‏,‏ يعمل بها سبعة آلاف خبير يتلقون يوميا حوالي مليون و‏25‏ ألف مشكلة واستفسار وسؤال من المؤسسات والشركات العاملة ببرمجياتها حول العالم‏,‏ ويقوم نظام الدعم الفني الذي تطبقه أوراكل علي فكرة العولمة الكاملة في تلقي المشكلات والتعامل معها وحلها‏,‏ وذلك من خلال نظام معلومات مركزي عالمي بالغ التطور والتعقيد ومطبق فيه مستويات رفيعة من تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي‏,‏ ويعمل بالمفاهيم والتكنولوجيات المطبقة في شبكة الإنترنت من حيث طريقة التواصل بين أطرافه والمستفيدين منه لكنه مغلق علي العاملين فيه والمتعاملين معه‏,‏

ويقوم خبير الدعم الفني أو الشركة التي تعمل ببرمجيات أوراكل بالتسجيل فيه وفق معايير وقواعد خاصة تمنحها صلاحيات معينة في استخدام النظام من أي مكان بالعالم‏,‏ ويقوم النظام بتلقي كل شكاوي ومشكلات الجهات والمؤسسات العاملة ببرمجيات أوراكل ثم تحليلها وفهرستها وتنظيمها وتحديد طبيعة ومؤهلات الكوادر الفنية وخبراء الدعم الفني الملتحقين بالنظام والمناسبين لحلها‏,‏ وفي لحظة وصول المشكلة يقوم بمراجعة موقف جميع الخبراء المتصلين بالنظام بكل مراكز الدعم الفني لأوراكل علي مستوي العالم‏,‏ من حيث نوعيتهم وخبراتهم والتعرف علي من يصلح لحل كل مشكلة علي حدة ولديه وقت لحلها‏,‏ وبناء علي ذلك يوزع المهام عليهم بغض النظر عن الموقع الجغرافي أو التوقيت الزمني أو الجنسية‏,‏ وبعد وصول المشكلة لخبراء الدعم يقوم النظام بمتابعة أداء كل منهم في الحل ومدي وفائه والتزامه بالمعايير الموضوعة من حيث التوقيت ومستوي الحل المقدم للمشكلة ورضا العميل عن الحل وغيرها‏,‏ ويتم تلقي المشكلات وفرزها وإعادة توجيهها علي خبراء الدعم ثم متابعتها بصورة لحظية وآلية علي مدار اليوم طوال‏24‏ ساعة‏.‏

بهذه الطريقة يمكننا القول أننا بصدد مجتمع تخيلي عملاق يضم في جنباته مئات الآلاف من العملاء والشركات وعشرات الآلاف من خبراء الدعم الفني حول العالم‏,‏ جميعهم يتواصلون ويتعاملون معا طوال الوقت‏,‏ وفي هذا المجتمع التخيلي المترامي الأطراف تعمل شبكة مراكز الدعم بطريقة نمطية ومعيارية‏,‏ أي وفق معايير وقواعد واحدة متطابقة لا تختلف من مركز لآخر‏,‏ كما تعمل بشكل متمازج ومندمج بما يجعلها تبدو أمام عملائها وزبائنها كمركز عالمي موحد يقدم خدماته لأي جهة أو شركة أو شخص حول العالم دون أن تكون هناك أية فروق في الخدمة المقدمة ما بين مركز وآخر‏.‏

ومركز الدعم الفني العالمي بالقاهرة واحد من سلسلة المراكز العاملة بهذه الطريقة‏,‏ وهذا معناه أن المركز ليس مجرد تجمع لبعض الفنيين وخبراء الدعم الذين يوجد الآلاف منهم هنا وهناك وتم وضعهم في مكان أنيق ليعملوا بالقطعة أو كيفما اتفق‏,‏ بل هو كيان يرتبط حيويا وعضويا بمنظومة عالمية موحدة متكاملة لتقديم الخدمة وفق معايير رفيعة المستوي وصارمة جدا تعمل علي مدار اللحظة وتحاسب وتقيم الأداء علي مدار اللحظة أيضا‏,‏ كما يتعامل مع مؤسسات مختلفة الأجناس والمشارب والأهواء والمشكلات‏,‏ ومن ثم فالعاملون فيه لابد أن يكونوا علي نفس المستوي العالمي من المهارة وكفاءة الأداء والعقلية ومنهجية التفكير‏.‏

وقد بدأ المركز بداية صغيرة في عام‏2005‏ حيث كان يعمل به أربعون شخصا وزاد العدد حتي أصبح‏360‏ شخصا في فبراير‏2007,‏ ويتوقع أن يرتفع إلي‏684‏ في مايو‏2008,‏ وبعد أن كان المركز يقدم عند بداية إنشائه نوعا واحدا من خدمات الدعم الفني داخل مجتمع أوراكل العالمي التخيلي للدعم الفني أصبح يقدم الآن ستة أنواع‏.‏

ينقلنا ذلك إلي القول أننا بصدد تجربة تتجاوز ما هو أعمق من مفهوم التجارة الذي توقفت عنده شركات عالمية أخري عديدة تعمل بمصر ومنها من له مقر علي مرمي حجر من مقر المركز بالقرية الذكية‏,‏ لكونها شكلا من أشكال الاستثمار ذا القيمة المضافة الأعلي‏,‏ سواء علي صعيد بناء قدرات بشرية جديدة وتعظيم استغلال ما هو قائم منها أو إرساء وتوطين أسس أنشطة إنتاجية جديدة تستوعب وتستفيد من التغييرات الجذرية في أساليب وبيئات العمل عالميا‏.‏

وعبر التفاصيل الكثيرة التي ذكرها المهندس عاطف حلمي وماجد طاهر مدير المركز حول رحلة إنشاء المركز لاحظت بعض النقاط الجديرة بالإشارة إليها في هذه التجربة‏,‏ منها دور مجموعة المصريين العاملين في أوراكل ويحتلون مناصب حيوية‏,‏ والتي آمنت بضرورة الاستفادة من مواقعها في تسويق مصر بشكل موضوعي لدي قيادة الشركة كبيئة عمل واعدة وصالحة لأن تنضم إلي منظومة الدعم الفني العالمية للشركة وبإمكانها تحقيق مصالح الشركة ومصالح مصر معا‏,‏ وكان علي رأس هذه المجموعة الدكتور طارق السعدني والمهندس عاطف حلمي وغيرهما‏,‏ ومثل هذا الدور ليس بجديد في مثل هذه المواقف‏,‏ فقد سبق وقام به الهنود العاملون بشركات التكنولوجيا الامريكية مئات المرات ولا يزالون‏,‏ وبالطبع تلقت هذه المجموعة مساعدة مهمة في القيام بدورها بنجاح بعد التغييرات التي حدثت في الخطاب والأداء الحكومي خلال السنوات الاخيرة فيما يتعلق بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وبروز مسئولين علي الساحة خرجوا من عباءة قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات‏,‏ حيث أدي هذا التغيير لتسهيل عملية التواصل والفهم المتبادل مع الشريك الاجنبي أوراكل في هذه الحالة‏,‏ وأوجد قاعدة للحوار والأخذ والرد كانت مفقودة قبل ظهور الدكتور نظيف وفريقه كوزير ثم رئيس وزراء‏.‏

وفي هذه التجربة نحن أمام ثلاثة أبعاد إيجابية للعلاقة مع الشريك الأجنبي‏,‏ الأول أنها تجربة قامت علي قاعدة الفعل والإضافة من الجانب المحلي وليس الشراء والملاحقة‏,‏ وأن هناك جهدا ملحوظا قد بذل في المشروع بعيدا عن الأفكار البغيضة من نوع تسليم المفتاح والاستسهال وشراء كل شيء علي بياض‏,‏ والثاني أن المشروع لم يكتف بالتأكيد علي صياغة العلاقة بين الكوادر المحلية والشريك الأجنبي وفقا لقاعدة الأيادي المتساوية بل حاول أن تقوم العلاقة علي مفهوم يقلب الأمر ويضعه في المسار الأصعب الذي يلعب فيه الطرف المحلي دور المصدر والبائع والموفر للخدمة والخبرات ذات المستوي العالمي بينما يلعب الشريك الأجنبي دور المشتري والمتلقي‏,‏ والبعد الثالث أن المشروع جسد في النهاية نوعا من التوازن بين التسهيلات والمسئوليات في التعامل مع الشريك الأجنبي‏,‏ ففي مقابل التسهيلات التي منحت للشريك الاجنبي في مجال البنية الاساسية والمكان وتكلفة العمالة وغيرها كان هناك التزام من الشريك تجاه توفير فرص للعمل والاستثمار أمام الكوادر المحلية المدربة وفتح المجال أمامها نحو الحصول علي المزيد من المهارات وفرص العمل في مجال الاعمال المتخصصة‏.‏

والخلاصة‏..‏ نحن أمام تجربة تقول أن إحداث تغيير نوعي في العلاقة مع الشركاء الأجانب أمر ممكن للغاية‏,‏ ويتطلب فقط أن يكون لدي مسئولي هذا القطاع رؤية واضحة للعلاقة مع الشركاء الأجانب تتجاوز حدود التجارة والسمسرة إلي التوطين والبناء والتنمية‏,‏ وأن يكون لديهم النية والإرادة والاستعداد للنضال والتضحية لتحقيق ذلك‏,‏ لأن الأمر سيتصادم حتما مع مصالح الكثير من القوي النافذة التي يوجد بعض أطرافها بالقرب من دائرة صنع القرار أو داخلها‏.


جمال محمد غيطاس
ghietas@ahram0505.net