Wednesday, March 14, 2007

أزمة الحديد والأسمنت‏..‏ ودور وزارتي الاتصالات والتنمية الإدارية

الثلاثاء ‏23 من صفر 1428 هـ 13 مارس 2007 ‏السنة 127-

صباح الأحد‏4‏
مارس نشرت وزارة التجارة والصناعة إعلانا بالصفحة الأولي بالأهرام خاص بقضية أسعار
حديد التسليح‏,‏ وكان الإعلان بمثابة ضوء كاشف قام مجددا بتعرية أخطر نقاط الضعف
التي تعاني منها الخطط القومية للتنمية المعلوماتية منذ أكثر من ست سنوات ولا تلوح
في الأفق أية بادرة علي التخلص منها‏,‏ فالإعلان في محصلته النهائية دليل صريح علي
أن هذه الخطط تبدو في كثير من الأحيان وكأنها تلتزم منهجا يصر إصرارا غريبا علي
تجاهل الواقع المجتمعي الذي يعيشه الناس والقفز فوقه بكل ما فيه من ألم ومعاناه‏,‏
ولا تقدم ما يكفي من الجهود الأصيلة والمبدعة التي تتحسس نبض الجماهير وتترجمه في
مشروعات معلوماتية رصينة‏.‏

قبل أي شيء ما الذي قاله إعلان وزارة التجارة والصناعة؟

كان نص الإعلان كالآتي‏:‏ في إطار جهود الوزارة لمتابعة حركة تداول حديد التسليح
في السوق وتنفيذا لقرار وزارة التجارة والصناعة رقم‏143‏ في شأن تنظيم وتداول حديد
التسليح والذي يلزم كافة المصانع وكذلك تجار حديد التسليح بإخطار قطاع التجارة
الداخلية بوزارة التجارة والصناعة يوم الأحد من كل أسبوع ببيانات هذه السلعة بدءا
من يوم الأحد الموافق‏4‏ مارس‏2007‏ وذلك علي النحو التالي‏:‏

الالتزام بالإعلان عن الأسعار‏:‏ يلزم القرار كافة مصانع إنتاج حديد التسليح
ووكلاء وتجار حديد التسليح بالإعلان في مكان ظاهر عن أسعار البيع بالنسبة للمصانع
أسعار البيع في أرض المصنع أو أسعار تسليم المحافظات‏,‏ وبالنسبة للوكلاء والتجار
أسعار البيع للمستهلك‏,‏ كما يلزم المصانع والوكيل والتاجر بالإخطار عن البيانات
التالية‏:‏

ـ بالنسبة للمصانع‏:‏ كميات الإنتاج والكميات المصدرة وأسعار التصدير وأسماء
المتعاملين مع كل مصنع وعناوينهم والمحافظات التابعة لها والكميات الموجهة للسوق
المحلية والمسلمة لكل وكيل أو تاجر أو مستخدم علي حدة وأسعار التسليم والمخزون‏.

ـ
وبالنسبة للوكلاء وتجار حديد التسليم‏:‏ الكميات المستلمة من كل مصنع علي
حدة ـ أسماء المتعاملين مع كل منهم ـ والكميات المباعة لكل عميل وسعر البيع
والمخزون‏.

كما تل
تزم
مصانع ووكلاء وتجار حديد التسليح بالآتي‏:‏


ضرورة إمساك سجلات منتظمة تتضمن بيانات تفصيلية عن حركة البيع والشراء وعلي الأخص
اسم المشتري والبائع وتاريخ وسعر البيع وتاريخ التسليم وإن تتم التعاملات فيما
بينهم أو مع الغير من خلال فاتورة تتضمن كافة البيانات السابقة‏.‏ وتعلن الوزارة
عن تلقي هذه البيانات علي العنوان التالي‏:‏ تقوم المصانع بإرسال البيانات
المطلوبة أسبوعيا في مظروف مغلق يسلمه مندوبها إلي قطاع التجارة الداخلية‏).‏

وبعدما تفحصت الإعلان قليلا خرجت منه بالنقاط السريعة
التالية‏:‏


ـ أولا‏:‏ يطلب الإعلان تجميع بيانات من المصانع والوكلاء والتجار عن حركة إنتاج
وتوزيع وبيع الحديد‏.
ـ
ثانيا‏:‏ أدوات التعامل مع البيانات التي اعتمدها هي الدورات المستندية
التقليدية بل وبعض الأدوات البدائية‏,‏ وبالنسبة لإرسال البيانات للوزارة طلب
وضعها في مظروف ورقي مغلق وتسليمها عبر مندوب إلي مقر الوزارة‏.‏
ـ ثالثا‏:‏ دورية جمع البيانات مرة أسبوعيا‏.
ـ
رابعا‏:‏ نطاق جمع البيانات هو مصر كلها لكونه يطلب ذلك من جميع مصنعي
ووكلاء وتجار حديد التسليح بجميع المحافظات‏.
ـ
خامسا‏:‏ يفهم ضمنيا أن هذه البيانات سيتم معالجتها داخل الوزارة للخروج
منها بمعلومات عن أداء وسلوكيات كل طرف داخل قطاع الحديد‏.
ـ
سادسا‏:‏ يفهم ضمنيا أيضا أن الهدف النهائي هو أن تستخدم وزارة التجارة
هذه المعلومات في إصدار قرارات تجاه كل طرف بما يحقق أهدافها‏.‏

والإعلان بهذه الصورة يعكس فكرا تقليديا متخلفا وجامدا في إدارة المعلومات
المتعلقة بهذه الأزمة ودليلنا علي ذلك بعض النقاط منها علي سبيل المثال لا
الحصر‏:‏
ـ يطلب الإعلان أن تتم موافاة الوزارة بالبيانات‏,‏ ويعني هذا عمليا أن البيانات
المرسلة ستفتقر إلي مرجعية لحظية للتحقق من صحتها عبر مقارنتها بالبيانات الموثقة
في دفاتر ووثائق التجار والمصنعين والوكلاء‏,‏ مما يمهد لنشأة فجوة معلوماتية بين
ما يصل للوزارة وما يتم فعليا علي أرض الواقع‏,‏ ولا يمكن عمليا تجاوز هذه الفجوة
إلا بنزول مسئولي الوزارة للاطلاع علي الدفاتر الأصلية‏.‏
ـ يطلب الإعلان أن يتم تسليم المظاريف عبر مندوبي الجهات‏,‏ وعند التنفيذ العملي
سيتعين علي مئات من المندوبين السفر من محافظاتهم للقاهرة أسبوعيا لتسليم‏(‏ حضرة
المظروف‏)‏ المحتوي علي البيانات‏,‏ وبالتالي ستنشأ فجوة معلوماتية ثانية إن لم
يكن بسبب سوء النية ومحاولة التهرب من جانب التجار فبسبب ضغوط ومتطلبات السفر
أسبوعيا للعاصمة للإبلاغ عن المبيعات‏.‏
ـ يعكس الإعلان رؤية محدودة الأفق للغاية‏,‏ لأنه يضع المعلومات الخاصة بأسعار
الإنتاج والتوزيع والبيع في حوزة الوزارة والمنتجين والمصنعين والوكلاء فقط‏,‏ أما
الجمهور العام صاحب المصلحة الأولي في القضية برمتها فلن يعرف‏,‏ وهذا ينشئ فجوة
معلوماتية ثالثة تتعلق بحق المجتمع في الحصول علي المعلومات المتعلقة بهذه السلعة
وحقه في الاختيار واتخاذ القرار بناء علي هذه المعلومات‏.‏
ـ دورة تحديث المعلومات يحددها الإعلان بأسبوع وهذه فترة طويلة لا تناسب طبيعة
القضية وتنشئ فجوة معلوماتية رابعة تؤثر سلبيا علي كفاءة القرارات المتخذة ضد
المخالفين‏.‏
نحن إذن أمام منهج في إدارة المعلومات أقل ما يوصف به أنه يستخدم وابور الجاز في
مناطحة صواريخ الفضاء‏,‏ وهذا نوع من العبث يكشف عن أن وزارة التجارة لم تسمع بعد
عن نظم المعلومات ولا شبكات نقل البيانات ولا نظم المحاسبة الإلكترونية ولا
الإنترنت‏,‏ فالإدارة السليمة للمعلومات في قضية لاهبة وضاغطة كأسعار الحديد
والأسمنت تتطلب فكرا مختلفا يبدع في تطوير منظومة معلومات إلكترونية تتم من خلالها
إدارة كل هذه البيانات والمعلومات لحظيا لبيناسب خطورة القضية‏,‏ لذلك كان الأنسب
أن يأتي الإعلان ليتحدث عن‏:‏
ـ الحاجة إلي بناء قاعدة بيانات قومية بوزارة التجارة والصناعة بمنتجي ومصنعي
ووكلاء وتجار الحديد والأسمنت ومنافذ بيعهما للمستهلك‏.‏
ـ الحاجة إلي بناء نظام معلومات مركزي يعمل عبر الإنترنت أو أي وسيلة تواصل أخري
لتلقي وفهرسة البيانات الواردة للقاعدة واستخراج كل المؤشرات اللازمة لدعم
القرار‏.‏
ـ الحاجة إلي بناء مراكز طرفية مميكنة لتغذية قاعدة البيانات القومية بالبيانات
الأولية علي أن توجد هذه المراكز بجميع مواقع الإنتاج والتصنيع والتوكيلات والتجار
ومنافذ البيع‏,‏ وتستقي معلوماتها لحظيا من واقع البيانات الفعلية التي يتم استخدامها
في نظم معلومات الإنتاج والتوزيع والبيع الموجودة لدي الجميع‏,‏ ويمكن للوزارة
الرجوع إليها لحظيا للتحقق من سلامة ما يصلها من بيانات‏.
ـ
الحاجة إلي شبكة معلومات لربط كل المعنيين بهذا القرار‏.
ـ
الحاجة إلي موقع علي الإنترنت يمثل نافذة تعرض للجماهير لحظيا أسعار
الحديد والأسمنت بكل منفذ بيع ولدي كل تاجر وأسعار إنتاجهما بكل مصنع‏,‏ بما يضمن
الوفاء بحق الجماهير في الحصول علي المعلومات‏.‏

وأعرف أن هناك من سيقول بأن منظومة معلومات إلكترونية قومية لإدارة أسعار الحديد
والأسمنت لحظيا أمر يتطلب وقتا وجهدا ومالا كثيرا بينما المشكلة مشتعلة وتتطلب حلا
آنيا‏,‏ فضلا عن أن هناك مشكلات تتعلق بفئة عريضة من تجار الحديد والأسمنت الذين
لا يقرأون أصلا فكيف نطلب منهم العمل علي الحاسب‏...‏ ألخ‏,‏ ولذلك فإن المطالبة
بمنظومة معلوماتية إلكترونية نوع من التحليق في الخيال‏.

وب
الإمكان بالطبع الرد بسهولة علي هذه النقاط وعشرات غيرها‏,‏ لكنني أقول
إنها في مجملها تماحيك يسوقها عادة من ليس لديه أفق رحب للحل‏,‏ ومن لا يريد
مواجهة حقيقية طويلة الأجل للمشكلة‏,‏ ومن يدمن سياسة إطفاء الحرائق لا الوقاية من
اشتعالها‏,‏ ومن يدمن النقل الحرفي للمشروعات المعلوماتية عن الآخرين ثم يحولها
إلي قدر منزل علي الناس أن تتقبله‏.‏

إن مجيء الإعلان بهذه الصورة معناه أن وزارتي الاتصالات والتنمية الإدارية خارج
القضية برمتها‏,‏ وحقيقة لا أعرف مثلا كيف تنفق وزارة الاتصالات بسخاء علي مشروعات
كالمدارس الذكية والمحتوي الإلكتروني‏..‏ ألخ وتغرقنا في كلام كثيف حولها ثم لا
توجد دقيقة واحدة من وقتها لتتوقف أمام أزمة ضاغطة علي المجتمع من هذا النوع‏,‏
وكيف لا يلتقط أحد من جهابذتها هذا الخيط ويجعل منه مشروعا جماهيريا ويناضل من أجل
تنفيذه؟ ثم أين ما يسمي بهيئة تنمية صناعة المعلومات؟ وكيف لا يسترعي انتباهها أن وزارة التجارة والصناعة تناطح
وحدها أساطين صناعة الحديد والأسمنت بأدوات وأسلحة متحجرة خارج الزمن؟ ما جدوي هذه
الهيئة إذا لم تكن قادرة علي استشعار هموم مجتمعها واستنباط فرص لصناعة المعلومات
من قلب ما يواجهه المجتمع من تحديات؟ هل تري الهيئة أن دورها يقف عند إعلان
استراتيجيات لا يعرف أحد مصيرها؟ ورحلات شرقا وغربا لا
يعرف أحد جدواها وتصريحات عنترية لقادتها لا تنفذ؟

إننا مجتمع يرزخ تحت أمية معلوماتية شديدة الوطأة تطال المواطن البسيط والكثير من
المستويات الإدارية وصناع القرار بالدولة بل والكثير من شرائحه المتعلمة
والمثقفة‏,‏ ولذلك فإن قضية مثل هذه تعد مشروعا معلوماتيا ممتازا‏,‏ إذا ما نفذ
باحتراف فسيكون كفيلا بأن يجعل قطاعا واسعا من المجتمع يتذوق طعما جديدا مختلفا
للمعلوماتية يعزف علي وتر الربط بين وجود المعلوماتية وتحقيق المصالح الساخنة
واللاهبة للجماهير‏.‏

إذا كان هناك بعض العذر لوزارة التجارة والصناعة في هذا الصدد‏,‏ فلا عذر يجعل
وزارتي الاتصالات والتنمية الإدارية تقبلان بأن يتم مجابهة أزمة أسعار الحديد
والأسمنت بمثل هذه العقلية الجامدة‏,‏ وإذا قبلتا أو تجاهلتا الأمر فلا جدوي من
قيامهما بإنشاء شبكات الاتصالات مترامية الأطراف ونشر الحاسبات بمئات الآلاف
وتقديم خدمات دالة علي التحول لمجتمع المعلومات‏,‏ لأن ذلك سيعد أقرارا بعجزهما عن
أن تتحسسا أوجاع المجتمع والتعامل معها معلوماتيا في الوقت المناسب‏,‏ ويؤكد من
جديد أن جانب كبير من أنشطتهما إما يقفز فوق الواقع المجتمعي أو يتجاهله أو منفصل
عنه‏.‏

جمال محمد غيطاس

ghietas@ahram0505.net


No comments: