شاركت قبل أسبوعين في أعمال لقاء رفيع المستوي بالأردن ضم عددا محدودا من الخبراء وجري خلاله إطلاق ومناقشة تقرير مهم حول واقع ومستقبل الاتصالات عريضة النطاق عالية السرعة ودورها في التنمية وبناء مجتمع المعلومات بالمنطقة العربية, وجاءت المشاركة تلبية لدعوة تلقيتها من شركة الكاتيل لوسنت والاسكوا ـ لجنة الأمم المتحدة لدول غربي آسيا وهي دول الخليج والعراق واليمن وسوريا والأردن وفلسطين ولبنان, بالإضافة لمصر ـ باعتبارهما الجهتان اللتان أعدتا التقرير ونظمتا اللقاء الخاص بمناقشته وإطلاقه بمقر وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الأردنية بعمان, وفي تقديري أن هذا تقرير مهم يستحق أن نتوقف عنده.
في عمان تابعت المحاضرة التي تم خلالها شرح تفاصيل التقرير ومنهجيته وأبرز ملامحه ونتائجه وتوصياته, ثم كنت بعد ذلك طرفا في المناقشات الثرية والقيمة التي ضمت مجموعة من الخبراء كان علي رأسهم يوسف نصير رئيس إدارة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بلجنة الاسكوا وتيري ألبراند نائب رئيس الكاتيل لوسنت للتواصل الرقمي, والخبيران الأساسيان اللذان أعدا التقرير وهما منصور فرح رئيس فريق الاسكوا المسئول عن سياسات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وسهيل ماريني مدير إدارة التــواصــل الرقمي بالكاتيل لوسنت.
دخل التقرير إلي القضية من نقطة الصفر فحاول تقديم تعريف وتوصيف الاتصالات عالية السرعة عريضة النطاق من منظور واسع ومتكامل لا يختزلها في خطوط الدي إس إل كما يحدث مع أغلب من يتحدثون عن هذا الموضوع, فهو أولا يري أن الاتصالات عريضة النطاق هي كل اتصال دائم بالإنترنت بسرعات تبدأ بـ256 كيلوبايت كحد أدني, وثانيا يقرر أن هذه الاتصالات تشمل خطوط المشتركين الرقمية دي إس إل, ووحدات استقبال وارسال البيانات العاملة علي خطوط الكابل كابل مودم, وخطوط الاتصالات اللاسلكية عالية السرعة الجيل الثالث للمحمول وشبكات الواي فاي والواي ماكس عالية السرعة, وخطوط الاتصالات عبر الأقمار الصناعية, وخطوط الألياف الضوئية التي تصل إلي المنازل.
انطلاقا من هذا المنظور الواسع يصنف التقرير منطقة الاسكوا ضمن أقل وأفقر مناطق العالم استخداما للاتصالات عالية السرعة عريضة النطاق, إذ إن عدد المشتركين الإجمالي بهذه الخدمات لا يتجاوز نصف المليون, في حين قدر عدد سكان المنطقة بأكثر من160 مليون نسمة عام2005 أي أن معدل انتشارها يساوي0.3 مشترك لكل100 نسمة في المتوسط, وحتي بمقياس العلاقة بين انتشار هذا النوع من الاتصالات ومستوي الدخل أو الناتج الإجمالي القومي للفرد يظهر التقرير أن هذه الدول تتميز بمعدل انتشار منخفض بالنسبة إلي دخل الفرد فيها.
انتقل التقرير بعد ذلك إلي تحليل واقع هذه النوعية من الاتصالات بشكل أكثر عمقا, فقرر أن الغالبية الساحقة من أشكال هذه الاتصالات تتمحور حاليا حول خطوط المشتركين الرقمية دي إس إل في سرعاتها وسعاتها الدنيا التي تتأرجح في معظم الأحيان بين256 كيلوبايت وواحد ميجا, أما باقي الأشكال الأخري من الاتصالات عريضة النطاق ـ كالكابلات والألياف الضوئية وغيرها ـ فهي في مجملها في طور الأفكار والخطط والطموحات أو المشروعات التجريبية علي أقصي تقدير, وهذا يعكس في مجمله حالة من عدم النضج في السوق, ومن أولي علامات عدم النضج أن شركات الاتصالات الأم المالكة للشبكات الأرضية لا تزال هي المهيمن الأكبر علي السوق حتي وإن بدا غير ذلك علي السطح, وكانت هناك عشرات الشركات تقدم الخدمات, وعدم نضج السوق يدفع الحكومات أحيانا إلي التدخل مباشرة بإجراءات معينة كفرض أسعار بعينها لتسهيل نشر هذه النوعية من الاتصالات كما هو الحال في مصر وسوريا.
رصد التقرير بموضوعية ودقة جانبا آخر من واقع سوق الاتصالات عريضة النطاق, حينما أشار إلي أن هذه السوق غير الناضجة في المنطقة مدفوعة بالعرض أكثر من الطلب, بمعني أن الشركات الموفرة للخدمة تسعي وتلح في تحفيز الطلب عن طريق طرح منتجات وتطبيقات جديدة في السوق, علي أن يجري لاحقا تعديل هذه المنتجات لتلائم احتياجات المستخدمين البازغة في كل قطاع علي حدة, ويذكر التقرير في هذا الصدد قطاع الأعمال والقطاع الحكومي والقطاع المنزلي وقطاع المجتمع المحلي.
وفي تصوري أن التقرير أصاب كبد الحقيقة في هذه النقطة التي تشكل واحدة من أهم جوانب الضعف والعوار بسوق الاتصالات عالية السرعة في المنطقة, فالذين يخططون ويصممون مبادرات في مجال الاتصالات عالية السرعة والذين يستثمرون أموالهم في إقامة شبكات وشركات توفر خدماتها للناس جميعهم ينطلقون من فكرة تكوين وإيجاد طلب غير موجود فعليا لدي الجماهير العريضة, والإلحاح عليه بحملات إعلانية ودعائية كبيرة ومستمرة حتي يقتنع به الناس ثم يبدأون في الإقبال عليه, لكنهم لا يقدمون جهدا أصيلا في البحث عن الطلب الكامن والموجود أصلا لدي الجماهير ومحاولة استثارته والتعبير عنه بخدمات مناسبة, وهذا المنطق المعكوس في الوصول بالخدمة إلي الناس هو أحد أهم الأسباب التي تعوق انتشارها, لأن القائمين عليه يقررون سلفا تجاهل جماهيرهم والتعالي علي احتياجاتهم والهبوط علي رءوسهم بمنتجات وخدمات من بنات أفكارهم هم, ومن ثم تصل هذه الخدمات إلي أرض غير مهيأة لاستقبالها فيكون نصيبها الفتور أو البطء في الإقبال عليها وضعف الإحساس بقيمتها.
يولي التقرير أهمية كبري لدور الأسعار في معدل انتشار الخدمة, ويعترف بأن ارتفاع الأسعار لا يزال أكبر العوامل التي تحد من انتشار خدمات الاتصالات عالية السرعة, خاصة أن المستخدمين يرغبون في الحصول علي قيمة مضافة من هذه الخدمات تبرر الكلفة التي يتحملونها, وإذا ما أضفنا ضعف المحتوي المحلي والتطبيقات المصاحبة له إلي ارتفاع السعر نجد أن هذه الخدمات أمام تحد كبير لا تحسد عليه, لأن المستخدم الفرد يفقد أهم مبرر يمكن أن يجعله يقبل علي هذه الخدمات ويعتمدها كوسيلة من وسائل إدارة عمله وحياته الشخصية وكذلك الحال بالنسبة للمؤسسات, وفي الوضع الحالي لا يزال الحافز الأقوي وراء الإقبال علي هذه الخدمات أشياء من قبيل الترفيه والاتصال الصوتي عبر الإنترنت, ثم تحدث التقرير بعد ذلك عن دور انتشار الحاسبات والخدمة الشاملة في تقوية فرص انتشار خدمات الاتصالات عالية السرعة.
في مقابل رصد هذه التحديات قدم التقرير حزمة من التوصيات للنهوض بخدمات الاتصالات عالية السرعة بالمنطقة, كان في مقدمتها ضرورة إطلاق حملات توعية حول أهمية الاتصالات عريضة النطاق وارتباطها الوثيق ببرامج التنمية, وطالب الحكومات بالإسهام في مثل هذه الحملات, كما طالب مقدمي الخدمات باستخدام أساليب تسويق مبتكرة وربط الوصول للخدمة بالمحتوي والتطبيقات, وشدد علي أهمية أن تعتمد الحكومات سياسة واضحة لبناء المحتوي المحلي المفيد وأن تترك الفرصة لتحديد الأسعار وفق قوي المنافسة, ومؤكدا أن المستخدمين لن يلجأوا إلي خدمات الاتصالات عالية السرعة مالم يحسوا بالقيمة التي يحصلون عليها مقابل المال الذي يدفعونه وبالطبع فإن هذه القيمة لن تتحقق في غياب المحتوي المناسب والقراءة الصحيحة للاحتياجات الفعلية للجماهير حتي وإن كانت احتياجات كامنة لا يشعرون بها.
من ناحية أخري هناك بعض الملاحظات التي يمكن أن نسوقها علي التقرير, منها مثلا أنه لم يعالج كما يجب قضية المشاركة في الخطوط واعتمد علي عدد الخطوط كوسيلة أساسية في قياس معدلات انتشار هذه الخدمات الأمر الذي يجعل الأرقام المتعلقة بمعدلات مستخدمي هذه الخطوط بعيدة عن الواقع بعض الشيء, ففي مصر مثلا يصل معدل المشاركة في الخط وتجزئته إلي ستة مستخدمين وربما أكثر, كذلك لم يعالج أوضاع الخدمات عريضة النطاق في ضوء الاتجاه العالمي السائد للدمج بين الثابت والمحمول, ولم يتطرق بما يكفي لقضية التلاحم بين الإعلام والاتصالات وتأثير ذلك علي خدمات الاتصالات عريضة النطاق, خاصة في ظل التعقيدات المتعلقة بالأوضاع التنظيمية بين الجهات القائمة علي الإعلام والجهات القائمة علي الاتصالات, كما لا حظت أيضا أن حزمة الحلول لم تشر صراحة إلي ضرورة تشجيع وتحفيز الإبداع المحلي والذاتي من قبل المستخدمين والمجتمعات المحلية كوسيلة من وسائل تعميق نشر هذه الخدمات بالمجتمعات العربية, واكتفت بالحديث عن بناء المحتوي.
يلاحظ أيضا أن التقرير لم يحسم أمره في تناول نقطة مهمة هي: هل الأجدي والأفضل أن تندفع الحكومات العربية بسرعة نحو نشر خطوط الاتصالات عالية السرعة بمعدلات عالية داخل مجتمعاتها أم تختار الدفع بها تدريجيا علي التوازي مع خطة لتهيئة المجتمع وبناء المحتوي وإفساح المجال لبروز الإبداع المحلي في التطبيق, لأن هذه النقطة تعد فاصلا بين منهجين مختلفين: الأول يلهث وراء الترويج لمنتجات التكنولوجيا والترويج لها تجاريا ثم المتاجرة بها سياسيا, والثاني يركز أكثر علي التنمية بالتكنولوجيا وتوطينها مجتمعيا ولو بوتيرة أبطأ.
وعلي الرغم من هذه الملاحظات فنحن في النهاية أمام جهد بحثي عالي القيمة يحسب لالكاتل والاسكوا معا, لكونه أول تقرير تفصيلي جاد وشامل يعالج هذه القضية بموضوعية وحياد, وقدم تشريحا موضوعيا دقيقا ورؤية شاملة لواقع ومستقبل هذه النوعية من الاتصالات بالمنطقة ووضع يده علي أبرز مناطق الضعف التي تحد من انتشارها ونجاحها, كما أوصي بحزمة من الإجراءات المهمة المطلوب تنفيذها لكي تنجح الاتصالات عالية السرعة في القيام بدورها كأحد العوامل المحفزة علي التنمية المجتمعية والتحول صوب مجتمع المعلومات, وآمل أن تأخذه الجهات المعنية علي محمل الجد وتعمل علي دراسة محتواه وتنفيذ توصياته.
ghietas@ahram0505.net
No comments:
Post a Comment