من المعتاد أن تبدأ بحثك علي الإنترنت بكلمة أو جملة تكتبها في محرك بحث, فتتلقي النتيجة إما نصوصا أو صورا أو فيديو طبقا لنمط الطلب الذي طلبته, ومن المعتاد أيضا أن ينتابك إحساس بالدهشة والذهول نتيجة ما يوضع علي أطراف أصابعك من نتائج ضخمة كما ونوعا في بضع ثوان, لكن قد يدهشك أكثر لو علمت أن كل ما تعجب به وتنبهر به الآن في عمليات البحث ليس سوي نقطة بداية بدائية في البحث والتجوال علي الشبكة, لأننا واقعيا بصدد فضاء إلكتروني جديد يتشكل ومحركات بحث مختلفة علي وشك الظهور ستضع بين أيدينا مستقبلا واقعا لم نعهده.
كانت هذه هي النتيجة التي استخلصتها من حصيلة أعمال اليوم الصحفي العالمي الذي عقدته شركة جوجل ـ صاحبة أكبر محرك بحث علي الشبكة ـ بباريس الثلاثاء الماضي وحضره أكثر من مائة صحفي من مختلف دول العالم, وشهد سلسلة محاضرات ونقاشات شارك فيها ايريك شميت الرئيس التنفيذي, وتشاد هيرلي وسيف تشين مؤسسا موقع يوتيوب للفيديو الذي يعد من أكثر المواقع شهرة وإثارة للجدل علي الشبكة حاليا, وماريسا ماير نائب الرئيس لبحوث المنتجات وهي عالمة شابة تتمتع بحضور قوي وخلفية علمية واسعة قدمت أهم ما قيل خلال اللقاء وعرضت إطلالة سريعة حول حاضر ومستقبل محركات البحث علي الشبكة, بالإضافة إلي نيكاش ارورا رئيس جوجل بمنطقة أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا.
ولكي نعرف السمات الأساسية لفكرة فضاء إلكتروني جديد ومحركات بحث مختلفة لابد أن نعود للوراء قليلا, فحينما بدأت الإنترنت بالانتشار عالميا في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي كفضاء إلكتروني عالمي مترامي الأطراف كانت العلامات البارزة في ساحة هذا الفضاء تتمثل في بضع مئات الآلاف من الصفحات والمواقع التي تضم محتوي نصي ثابت بالكامل تقريبا وحجما محدودا من المراسلات الإلكترونية, ويتم الوصول لهذا المحتوي عبر الحاسبات المتصلة به سلكيا, وعبر السنوات العشر الماضية تغير الموقف بشدة حتي وصلنا إلي المشهد الراهن الذي تحول فيه المحتوي الجامد إلي متغير والطبيعة النصية المحضة تقريبا إلي متعددة الوسائط, وعرض المعلومات فقط إلي تقديم وإدارة الخدمات والمعاملات الإلكترونية, وتعددت وسائل تحميل ونشر المحتوي ما بين سلكية ولاسلكية وأرضية ومحمولة وفضائية الوصول للمحتوي.
وفي ظل هذه التغييرات العميقة المتسارعة أصبحت هناك أوجه اختلاف كبيرة يتوقع أن نشهدها علي الفضاء الإلكتروني خلال الفترة المقبلة, ويمكنني أن أستخلص مما قاله الخبراء سمات هذا التغيير في النقاط التالية:
ـ تسونامي الفيديو علي الشبكة: ويقصد بها الزيادة غير المسبوقة في ملفات وأفلام الفيديو التي يجري تحميلها علي الشبكة ثم مشاهدتها مرارا بعد ذلك عبر مواقع مشاركة الفيديو ونسبة كبيرة من المواقع التابعة للمؤسسات الإعلامية والخدمية والتجارية ومدونات الفيديو الشخصية, ولعل الأرقام التي كشف عنها مؤسسا موقع يوتيوب الأسبوع الماضي تعطينا مؤشرا مهما علي حجم تسونامي الفيديو علي الشبكة, فيوتيوب عند انطلاقته قبيل عام2005 كان يتلقي ثلاثة ملايين ملف فيديو يوميا معظمها يدور حول اللقطات التذكارية والمناظر الطبيعية, لكنه الآن يستقبل ست ساعات من الفيديو في الثانية الواحدة, وبشكل عام يستقبل ويبث100 مليون شريط فيديو في اليوم, وبشكل عام أصبح الفيديو يشكل أكثر من60% من حجم المرور علي الإنترنت, والنسبة مرشحة للازدياد مع الزيادات المستمرة في مكتبات الفيديو والإقبال المذهل علي تحميل ملفات الفيديو من قبل الأفراد والمؤسسات علي السواء.
ـ جموح معدلات النمو في محتوي الويب: تتوقع مؤسسة آي دي سي المتخصصة في بحوث تكنولوجيا المعلومات نموا سنويا قدره ستة أضعاف في حجم المعلومات الرقمية من عام2006 وحتي2010 بما في ذلك المحتوي علي الويب, بينما يقول خبراء جوجل إنهم في بداية إنشاء وتشغيل محرك بحث جوجل قبل عشر سنوات قاموا بفهرسة وتصنيف25 ألف صفحة علي الإنترنت, وصلت بعد ذلك إلي أكثر من مليار صفحة, وفي كل مرة يعاد فيها فهرسة الويب ترتفع النسبة بحوالي10 إلي25%, والنسبة مرشحة لأن تصل إلي50% خلال وقت قصير, وهذا معناه أن حجم المحتوي علي الويب قابل للتضاعف خلال دورات زمنية قصيرة, ويتوقع أن يكون70% من المحتوي الرقمي علي الشبكة وراءه أفراد, ويكفي أن نعلم مثلا أن هناك الآن أكثر من مليار أغنية رقمية تتم المشاركة فيها يوميا عبر الإنترنت, وهناك120 ألف مدونة يضيفها الأفراد للإنترنت كل يوم.
ـ تنوع مصادر التغذية وقنوات التوزيع: حتي وقت قريب كانت الحاسبات هي البوابة شبه الوحيدة التي يتم من خلالها توليد وإضافة المحتوي علي الشبكة أو استقباله ومطالعته, لكن في الفضاء الإلكتروني الجديد تغير هذا الوضع إلي حد كبير, ودخلت علي الخط الحاسبات اليدوية والتليفونات المحمولة والكاميرات الرقمية والمساعدات الشخصية التي تعمل سلكيا ولاسلكيا وفي النطاقات الصغيرة والواسعة, وعلي سبيل المثال تتحدث مؤسسة آي دي سي عن أن عدد الصور التي تم التقاطها بواسطة الكاميرات الرقمية الثابتة في عام2006 تخطي حاجز150 مليار صورة حول العالم, بينما بلغ عدد الصور التي تم التقاطها بواسطة كاميرات الهواتف المحمولة حوالي100 مليار صورة. وتتوقع آي دي سي التقاط أكثر من500 مليار صورة بحلول عام2010.
ـ توقع طفرة في عدد المستخدمين: حينما كان عمر الإنترنت عامين فقط أي عام1996 كان هناك48 مليون شخص فقط يستخدمونها بانتظام, وبعد عشر سنوات كسر عدد المستخدمين حاجز المليار وأصبح1.1 مليار شخص, لكن الأمر لن يستغرق عشر سنوات أخري لكي يضاف مليار مستخدم آخر للشبكة, فآي دي سي تتحدث عن500 مليون مستخدم جديد بعد ثلاث سنوات, بينما يتحدث إريك شميت رئيس جوجل عن مليار مستخدم جديد خلال هذه الفترة, ومعني ذلك أن المليار الجديد سيولد خلال سنوات قليلة فضاء إلكترونيا جديدا مختلفا علي صعيد حجم المحتوي ونوعيته وأدوات توليده واسترجاعه ومستخدميه ومشكلاته وتحدياته.
خلاصة هذه السمات الجديدة تؤكد أننا بصدد فضاء إلكتروني جديد, وطالما أن هناك فضاء إلكترونيا جديدا فلابد أن يكون في الكفة المقابلة محركات بحث مختلفة وأكثر نضجا, لأنه بدون محركات بحث قادرة علي ترويض هذا المحتوي بالفهرسة والتصنيف والترتيب وسرعة الوصول سيتحول المحتوي إلي جبال مصمتة من المعلومات غير المفهومة وغير القادرة علي القيام بوظيفتها, أي تصبح عبئا ثقيلا علي المتعاملين معها ولا قيمة لها, وكاستجابة لذلك تحدث خبراء جوجل وخاصة ماريسا ماير عن جيل مختلف من محركات البحث يجري تطويره ليلبي متطلبات الفضاء الإلكتروني الجديد, ويمكن إجمال خصائصه فيما يلي:
ـ الشمول: أي القدرة علي البحث في النصوص والصور وأفلام الفيديو والمواقع العادية والمدونات الشخصية ومواقع الأخبار وكل مورد من موارد المعلومات علي الشبكة في وقت واحد وبشكل متزامن بدلا من استخدام محرك بحث للصور وآخر للفيديو وثالث للمعلومات النصية, أي أنك حينما تستخدم جوجل مستقبلا وتكتب اسم شخص ما تبحث عنه, فإن محرك البحث سيأتي لك بأفلام الفيديو والتسجيلات الصوتية والصور الخاصة بهذا الشخص جنبا إلي جنب مع المعلومات النصية التي تأتي في صورة وثائق وصفحات, وسيتيح الجيل الجديد تحديد طريقة عرض وتصنيف نتائج البحث, سواء بترتيبها في مجموعات أو ضمن مجموعة واحدة أو غير ذلك, وخاصية الشمول تأتي تلبية لظاهرة تسونامي الفيديو والانفجار الكبير في حجم المحتوي علي الويب وتنوع مصادره.
ـ السرعة: مع النمو الهائل في حجم البيانات وتنوعها تصبح السرعة تحديا كبيرا بالنسبة لأي محرك بحث, فالبحث في25 ألف صفحة ليس كالبحث في مليار أو ملياري صفحة وفيلم وتسجيل وصورة, ومع ذلك فإن جوجل تتحدث عن محرك بحث يعمل وكأنه شعاع ضوء يجوب محيطات المعلومات المتلاطمة ويعود للمستخدم بالنتيجة كما لو كان هذا الشعاع يدور بين عدة نقاط ويعود لنقطة انطلاقه في كسور من الثانية.
ـ العمق: كل محركات البحث تعمل حتي الآن علي مستوي النص, بمعني أنك حينما تبحث عن مصر فإن محرك البحث يقوم بمضاهاة الأحرف الثلاثة الميم والصاد والراء, وهي متصلة معا مع ما يوجد بقواعد بياناته من نصوص توجد بها الحروف الثلاث متصلة, وبالتالي فإن كل كلمة ترد فيها هذه الحروف الثلاثة يعتبرها من الأشياء المطلوب البحث عنها ويضعها في نتيجة البحث دون أن يعلم أي شيء عما تعنيه أو تدل عليه, وتعتقد جوجل ـ ومعها الكثيرون حول العالم ـ أن البحث النصي مرحلة بدائية لابد من تجاوزها والبحث عن مستوي آخر تستطيع فيه محركات البحث التعرف علي معاني ودلالات الكلمات, فيما يعرف بالبحث الدلالي أي أن محرك البحث في حالة مثال مصر لا يتعامل معها فقط كثلاثة أحرف متصلة ولكن ككلمة لها معني, أي أن مصر تعني دولة بهذا الاسم لها موقع جغرافي وتاريخ.. ألخ, مما يعطي عملية البحث مزيدا من العمق ينعكس علي مستوي دقة النتائج ويربط بين معلومات متناثرة قد لا يتاح الربط بينها في حالة البحث النصي.
ـ الشخصنة: ويطلق عليها أحيانا البحث الشخصي بمعني أن تكون عملية البحث متناسبة ومفصلة علي احتياجات وإمكانات وتفضيلات القائم بالبحث, ولتحقيق هذه الخاصية تتحدث جوجل عن أكثر من أداة, منها أداة تسمح بأن تتم عملية البحث وتعرض نتيجتها بلغة الباحث حتي لو كان البحث يتم في محتوي بلغات أخري, وهذا معناه وجود آلة ترجمة قوية وسريعة للغاية تعترض طريق أمر البحث من الباحث وتترجمه إلي كل اللغات المتاحة بمحرك البحث ثم تعترض طريق نتيجة البحث وتترجمها إلي لغة الباحث الأصلية قبل أن تعرض عليه, وبذلك فإن الباحث عن كلمة مصر سيبحث بالعربية في المواقع غير العربية ثم يتلقي النتيجة بالعربية بعد ترجمتها عن اللغات غير العربية, والمفترض أن دمج عمليتي البحث والترجمة معا لن يؤثر علي سرعة البحث ولن يطيل زمن الحصول علي النتيجة مترجمة, وقد أكد مسئولو جوجل أن الترجمة ستكون للعناوين وأسماء الوصلات وملخصات الصفحات فقط, أما الوثائق والنصوص الموجودة علي مواقعها الاصلية فلن تتم ترجمتها, وقد أطلقت جوجل علي هذه الأداة اسم الارتجاع المعلوماتي العابر للغات.
ومن أدوات شخصنة البحث أيضا أداة بناء ملف تفضيلات الباحث الذي يتتبع سلوكياته وتفضيلاته في البحث عن الزمن وتخزين نتائجه أولا بأول بما يساعده علي الوصول إلي المعلومات أو العودة إليها بسرعة أكبر, وبما يجعل الباحث يشعر وكأن بين يديه محرك بحث خاص به.
إن ما فعلته الإنترنت خلال السنوات العشر الماضية قد جعل عالم2007 مختلفا كلية عن عالم1997, والأغلب أن حاصل جمع سمات الفضاء الإلكتروني الجديد مع خصائص محركات البحث المختلفة ستجعل عام2010 ـ ثلاث سنوات من الآن وليس عشرة ـ مختلفا عن عالم2007 لذلك علينا الاستعداد لا الانتظار.
ghietas@ahram0505.net
No comments:
Post a Comment