Wednesday, September 27, 2006

الأبعاد المعلوماتية للهموم المصرية‏..‏ فريضة غائبة

http://ait.ahram.org.eg/Index.asp?DID=8986&CurFN=maka0.HTM

تتراكم الهموم المصرية التي تثقل كاهل الناس وتتزايد يوما بعد يوم فباتت صعبة الحصر‏,‏ وحينما ننظر إلي هذه الهموم نجد بينها قاسما مشتركا‏,‏ وهو أننا لا نلتفت لأبعادها وأسبابها المعلوماتية ونهملها إلي حد كبير حتي أصبحت هذه الأبعاد كالفريضة الغائبة‏,‏ أي الشيء الذي تفرض الظروف أن يكون موجودا لكنه غائب‏,‏ وعمليا يؤدي هذا الغياب إلي زيادة اشتعال الهموم وتعقيدها وغموضها وتمديد عمرها واستعصائها علي الحل وتشديد وطأتها علي الحلقة الأضعف في الوضع برمته وهي المواطن البسيط‏,‏ ولا ريب أن الأمر بهذا الشكل يجعلنا في حاجة ماسة لإعادة قراءة والتعامل مع هذه الهموم من المنظور المعلوماتي‏,‏ عسي أن تسهم هذه القراءة في أن تقدم لها حلولا غير تقليدية‏,‏ خاصة وأنها هموم تعمقت وتعقدت حتي أصبحت غير تقليدية ويتعين علينا التوقف عن التفكير فيها والتعامل معها بالطرق والحلول التقليدية‏.‏

لو نظرنا إلي سلة الهموم المصرية نجد أنه في التعليم مثلا هناك تبرم وعدم رضا عن المناهج والجودة وطرق التدريس والتكلفة‏,‏ وفي الزراعة جدل حول المبيدات ومافيا التعدي علي الأرض الزراعية وبيعها وتدهور بعض المحاصيل وهجمات الجراد وأنفلونزا الطيور‏,‏ وفي الري هواجس حول شح المياه وعدم اطمئنان إلي مشروع توشكي‏,‏ وفي الصحة معاناة في مستشفيات الحكومة من تدني الأداء وأحيانا اختفاء الخدمة‏,‏ ومعاناة في القطاع الخاص والاستثماري من لهيب الأسعار وطغيان الفندقة علي كفاءة العلاج‏,‏ وفي السياسة سلاسل من الاشتباكات لا تنتهي حول قضايا الحكم والانتخابات وغيرها‏,‏ وفي الصحافة والإعلام أوضاع وصلت لحافة الاشتعال‏,‏ وفي الرياضة تراجع كان أبرزه صفر المونديال وانفلات بعض الألسنة علي منصة الاستاد‏,‏ وفي الخدمات‏:‏ مياه لا تصل في بعض الأحيان وإن وصلت فتحتاج إلي إعادة معالجة‏,‏ وكهرباء مقطوعة النفس‏,‏ ناهيك عن مشكلات تضخم الأسعار والبطالة وعذابات ما يحدث للمصريين في الغربة وآخرها مأساة الـ‏500‏ عامل بصحراء الكويت‏,‏ وهكذا‏.‏

قد يسارع البعض إلي القول بأن هذه الهموم مدروسة ومعروفة وكل المعلومات المتعلقة بها موجودة لدي الجهات المعنية‏,‏ وبالتالي فإنها هموم ومشكلات مقروءة معلوماتيا بالفعل ولا تحتاج لدعوة تطالب بذلك‏,‏ ومثل هذا القول لا يعكس الحقيقة‏,‏ لأن المشكلة شيء وتحديد حالتها المعلوماتية شيء آخر‏,‏ فحوادث القطارات التي يروح ضحيتها العشرات وتتكرر من وقت لآخر هي بالفعل مشكلة‏,‏ لكن المعلومات المتعلقة بهذه المشكلة تشمل التوصيف الكامل لحالة القضبان والجرارات والإشارات والنظام الإداري لهيئة السكك الحديدية وكفاءته ونظم التشغيل والصيانة ومستوي التدريب لدي العمال وأعداد الركاب وتفضيلاتهم والتجمعات السكانية التي تخدمها السكك الحديدية والكباري والطرق المتقاطعة مع السكك الحديدة وغيرها‏,‏ وبعض هذه المعلومات لابد أن يكون ثابتا لا يتغير وبعضها متغير ويحتاج تحديثا طوال الوقت سواء علي مستوي اليوم أو الأسبوع أو الشهر أو السنة‏,‏ ومن ثم فإن مثل هذه المعلومات تتطلب خططا وجهودا استهدافية متخصصة ومستقلة لتتبعها وجمعها وتصنيفها وفهرستها وتحديثها وتحليلها‏,‏ أي أننا أمام شيء يتجاوز كثيرا مجرد التعرف علي المشكلة وتحديدها‏.‏

ولعل السؤال الذي يتبادر إلي الذهن الآن هو‏:‏ ما المقصود تحديدا بقراءة همومنا المختلفة قراءة معلوماتية ؟
المقصود بمنتهي البساطة أن تتم دراسة حالة المعلومات المتعلقة بهذه الهموم بعمق وموضوعية وبشكل مستقل واستهدافي لمعرفة‏:‏ هل هي معلومات موجودة أم غائبة أم مغيبة‏,‏ وإذا كانت موجودة‏:‏ هل هي معلومات جيدة ودقيقة ومناسبة للتعامل مع المشكلة أم غير دقيقة ومتدنية الجودة وغير مهيأة لأن تلعب الدور المنوط بها‏,‏ وإذا كانت موجودة وذات جودة‏:‏ فهل هي معتقلة وغير متداولة إلا في نطاق ضيق للغاية أم معلومات متاحة وحرة التداول وتصل للمعنيين والمحتاجين لها‏,‏ وإذا كانت معلومات موجودة وذات جودة ومتاحة‏:‏ فهل هي معطلة أو مهملة ولا يعبأ بها أحد أم يجري توظيفها في التعامل مع المشكلة‏,‏ وإذا كانت توظف بالفعل‏:‏ فهل يجري توظيفها بشكل سليم أم بشكل خاطيء‏,‏ وانطلاقا من هذه الدراسة العميقة والمتأنية يتم الوقوف علي طبيعة الدور الذي تلعبه المعلومات في حدوث المشكلات والهموم المختلفة‏,‏ وهل المعلومات بحالتها وأوضاعها الفعلية تعتبر في حد ذاتها سببا من أسباب المشكلة أم لا‏,‏ كما يتم الوقوف علي طبيعة الدور الذي تلعبه المعلومات في تشخيص وحل المشكلة وفي نشر آثارها علي المجتمع والمعنيين بها‏,‏ وذلك بكل دقة وموضوعية‏.‏

الأهمية والجدوي
والقراءة المعلوماتية للمشكلات والهموم ـ بالمفهوم السابق ـ لم تعد ترفا بل ضرورة حيوية‏,‏ لأن المجتمعات البشرية أصبحت علي مستويات عالية جدا من التعقيد في تركيبتها وبنيتها الداخلية وضخمة في حجم سكانها وتتجه مع الوقت صوب المزيد من التعقيد‏,‏ كما شهدت وتشهد تطورا خطيرا في طبيعة التحديات والمشكلات التي تواجهها‏,‏ وقد أفرز ذلك انفجارا معلوماتيا ضخما علي كل المستويات‏,‏ وطبقا لإحصاءات بعض المؤسسات الدولية فإن معدل إنتاجية العالم من البيانات والمعلومات الرقمية الناجمة عن استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات خلال العامين الماضيين قد تجاوز إجمالي ما أنتجته البشرية من معلومات وبيانات طوال تاريخها‏,‏ وهذا يدل علي أن كل المجتمعات تواجه تيارا متدفقا من المعلومات التي تتراكم بسرعة مولدة فيضانا أو انفجارا معلوماتيا رقميا متواصلا‏,‏ لم يترك مشكلة أو ظاهرة إلا وأنشأ وراءها معلومات ضخمة ترتبط بها وتتطلب تعاملا وتدخلا مستقلا عند التعامل معها بأي صورة من الصور‏.‏

في ضوء ذلك شاعت حول العالم مصطلحات ومفاهيم وأساليب وأدوات في الحكم والاقتصاد والاجتماع والأمن والعسكرية تتحدث عن الإدارة بالمعلومات والإدارة بالمعرفة‏,‏ ثم تطور الأمر وبرزت علي السطح ظواهر جديدة أكثر شمولا واتساعا تتحدث عن الاقتصاد القائم علي المعرفة‏,‏ والديمقراطية الرقمية والحكومة الإلكترونية ثم أخيرا مجتمع المعلومات ومجتمع المعرفة‏.‏

ومع كل فصل أو مرحلة جديدة من مراحل هذا التطور كانت القراءة المعلوماتية للمشكلات تتعمق وتترسخ وتزداد أهميتها‏,‏ حتي بدأ البعض يتحدث عن المعلومات باعتبارها المادة الخام الأساسية المسئولة عن تشغيل‏(‏ النظام العصبي الرقمي‏)‏ داخل المؤسسات والهيئات المعنية بحل المشكلات المختلفة بأي دولة‏,‏ وذلك من خلال إفساح المجال لتداول المعلومات المتعلقة بأي مشكلة بالسرعة والنعومة والكفاءة المطلوبة التي تضمن الاستجابة السريعة للطوارئ والفرص‏,‏ وأيضا توفير معلومات ذات قيمة حقيقية بسرعة مطلقة‏,‏ وفي الوقت المناسب لمن يحتاجها‏,‏ وتوفير الدعم اللحظي اللازم لاتخاذ قرارات سريعة سليمة ذات تأثير إيجابي في مختلف مراحل التعامل مع المشكلة‏,‏ بدءا بالتخطيط المبكر وانتهاء بإزالتها نهائيا‏.‏

وعمليا أصبح رد المشكلات والهموم إلي أصولها وأسبابها المعلوماتية يسهم في تحقيق نتائج طيبة للغاية في القضاء عليها أو علي الأقل التخفيف من وطأتها‏,‏ خاصة في مشكلات بعينها كالبطالة والتعليم والصحة والزراعة ومشكلات قطاعات النقل والمواصلات والأجهزة السيادية كالضرائب والجمارك وغيرها‏,‏ وتشهد علي ذلك خبرات وممارسات عديدة في الهند والبرازيل وبوليفيا وغيرها من الدول التي تتقارب ظروفها مع ظروفنا‏,‏ ناهيك عن الدول المتقدمة ذات العراقة والكثافة في الاعتماد علي المعلوماتية‏.‏ ولو حاولنا التدقيق في المنظور العام لدور المعلوماتية كأداة لرفع الهموم وحل المشكلات بالمجتمعات المعاصرة‏,‏ سنجد أمامنا ثلاث ثورات تشكل ما يشبه المثلث الذي تقود كل زاوية فيه إلي الأخري في دورة متصلة‏,‏

الأولي ثورة المعلومات بما فيها من منجزات علمية وتكنولوجية في مجالات البرمجيات والإلكترونيات وشبكات الاتصالات والمحتوي ونظم المعلومات والأجهزة والمعدات وغيرها من العناصر التي تحولت من منجزات علمية وإبداعات تقنية إلي مزيج من الأدوات يدير تفاصيل الحياة اليومية‏.‏ والثانية هي ثورة التغيير ومن أهم ملامحها الانتقال إلي القيم العالمية بدلا من القيم المحلية‏,‏ وبروز الثروة الفكرية مقابل الثروة المادية‏,‏ واللغات العالمية مقابل اللغة المحلية والتنظيمات والمؤسسات الشبكية العرضية العابرة للتقسيمات الاجتماعية والجغرافية مقابل الرأسية المحصورة فئويا وإقليميا‏,‏ والابتكار والاختلاف مقابل التكرار والنمطية‏,‏ وإنتاج السرعة مقابل إنتاج الوفرة‏,‏ والإنتاج كثيف المعلومات مقابل الإنتاج كثيف العمالة‏.‏ والثورة الثالثة هي ثورة‏(‏ العقل المجتمعي‏)‏ ونعني به هنا حزمة الأفكار والقناعات والسلوكيات والسمات التي تسود مجتمع ما وتحكم توجهاته وتعاملاته مع قضاياه المختلفة‏,

‏ والتي يتعين أن توفر الأرضية اللازمة للتعامل المعلوماتي السليم مع هموم ومشكلات المجتمع‏.‏ وللأسف فإننا في مصر أمام‏(‏ عقل مجتمعي‏)‏ ليس مهيئا بما يكفي لبروز دور فاعل للمعلوماتية في التعامل مع المشكلات والهموم‏,‏ فالتعامل مع المشكلات والهموم في ظل ثورة المعلومات يتطلب عقلا متجددا دائم البحث والمبادرة والإبداع‏,‏ ونحن لدينا عقل مجتمعي خامد يميل للتقليد والتآلف مع الخرافة‏,‏ ويتطلب عقلا مستقلا وضد التبعية‏,‏ ونحن لدينا عقل تابع ناقل لا يتورع عن استيراد أي شيء حتي رؤاه‏,‏ ويتطلب عقلا يعي أهمية الاختلاف والتنوع ونحن لدينا عقل يميل للنمطية والتوحد‏,‏ ويتطلب عقلا يعتمد النظرة الكلية والمداخل متعددة الرؤي ونحن لدينا عقل أحادي لا يكترث بالروابط والنظرة التكاملية‏,‏ ويتطلب عقلا يتبني التوجه المنظومي ونحن لدينا عقل لا منظومي يستسلم للنظرة الجزئية المفككة‏,‏ ويتطلب عقلا ينتج العلم ويحترمه ونحن لدينا عقل يبشر بالعلم ولا ينتجه وكثيرا ما يمتهنه‏,‏ وفي ظل هذا العقل المجتمعي السائد كان منطقيا ألا نرد همومنا لأسبابها وجذورها المعلوماتية وهو أمر أفضي إلي تعقيدها واستمرارها وإذكاء نارها ونشر لهيبها بين ضلوع المواطن الفرد‏,‏ والشواهد علي ذلك كثيرة ومتنوعة‏.‏

..‏ وإلي الأسبوع المقبل‏.‏


جمال محمد غيطاس
ghietas@ahram0505.net


--
. . h.o.s.a.m.r.e.d  . .
Unleashed Innovation
--
http://hosamred.blogspot.com

No comments: