Thursday, July 24, 2008

برامج الحكومة الإلكترونية‏..‏ أطراف صناعية في جسد شبه ميت

كتب جمال غيطاس في الأهرام بتاريخ 22 يوليو 2008

كان الله في عون وزير التنمية الإدارية وفريقه المسئول عن برامج الحكومة الإلكترونية‏,‏ فطوال السنوات الماضية وهم يجهدون أنفسهم في تصميم وتنفيذ هذه البرامج وخدماتها وبوابتها علي الإنترنت ثم لا يحصدون سوي النذر اليسير من الفاعلية والإحساس الجماهيري العام بما يفعلون‏,‏ وفي أحيان كثيرة يعودون من المجتمع بخفي حنين بسبب التجاهل وعدم الوعي‏,‏ وقد تعاندهم الظروف أكثر فيحصدون سخرية يولدها عدم الفهم

‏ والآن تبدو برامجهم داخل الجهاز الحكومي والإداري بالدولة وكأنها أطراف صناعية جيدة التصميم غنية الإمكانات لكنها وضعت في جسد شبه ميت إما لا يستفيد منها علي الإطلاق أو يحدث بينه وبينها تواصل ضعيف لا يتناسب مع ما تحمله من إمكانات أو ما بذل فيها من جهد‏,‏ ووضع كهذا يكرس نجاح ظاهرة النجاح التقني والتعثر المجتمعي لهذه البرامج‏,‏ وهذه معضلة تحتاج مصارحة في المناقشة‏,‏ لأن النجاح التقني المصحوب بالتعثر المجتمعي معناه موارد ضخمة تتبدد وجهود كبيرة تتمدد ثم تصبح كالنقش في الماء‏,‏ وهذا ما لا يطيقه أحد‏.‏

دون مواربة أقول إن السبب الأساسي في هذه المعضلة أن الحكومة ـ ومن ورائها جهاز الدولة الإداري البيروقراطي ككل ـ لا تتعامل مع هذه البرامج باعتبارها فكرا جديدا وفلسفة مختلفة في العلاقة مع المواطن‏,‏ ورؤية مغايرة لحقوقه وواجباته تفرض تغييرا جذريا في منهجيات العمل والبناء المؤسسي الداخلي لجميع الهيئات والمؤسسات‏,‏ بل تتعامل معها باعتبارها مجرد أداة تحقق بعض التجميل السطحي في صورتها أمام الجماهير والعالم مجاراة لموضة التكنولوجيا‏,‏ دون المساس بما ورثته من سلطة أو ما تطبقه من طرق ومنهجيات في الأداء أو تعتنقه من رؤية لحقوقها وواجبات المواطن‏..‏ كيف ؟

التعرف علي ذلك عن قرب يتطلب إيضاح فكر وفلسفة النموذج الحكومي البيروقراطي العتيق الموروث عالميا ـ وليس مصريا فقط ـ والذي تتحدد علي أساسه طريقة تعامل أي حكومة تقليدية مع جماهيرها‏,‏ وأيضا إيضاح فكرة وفلسفة النموذج الحكومي الإلكتروني الحديث وليد عصر المعلوماتية وثورة الاتصالات والذي تتحدد علي أساسه طريقة تعامل أي حكومة عصرية إلكترونية مع جماهيرها‏,‏ وهنا أنا أستند إلي التحليل المطول الذي كتبته جلوريا إيفانز حول تجربة برنامج الحكومة الإلكترونية البريطانية خلال عامي‏2001‏ و‏2003‏وصدر بعد ذلك في كتاب بعنوان الحكومة الإلكترونية‏

وكان عماده الأساسي دراسة نقدية عميقة ورصينة لتجربة الحكومة الإلكترونية الإنجليزية قامت بها مؤسسة فورستر للأبحاث‏.‏

إن الفكر السائد منذ قرون طويلة لدي الأجهزة البيروقراطية عالميا جعل الحكومة التقليدية تتصف بالعديد من الصفات منها أنها‏:‏

ـ هرمية البناء وخضوع المستوي الأدني للمستوي الأعلي والتلقي منه بلا مناقشة‏.‏

ـ تجعل من نفسها القلب أو المركز الذي يدور حوله ويستجيب له ويخضع له كل ما سواه‏,‏ وتركز علي تحقيق ما تراه أو تضعه هي وإداراتها وهيئاتها من أهداف‏,‏ بينما الشعب والمواطنين وأصحاب المصلحة والجمعيات والمؤسسات التجارية فيوجدون علي الهامش ويسودهم شعور بأن آراءهم لا يتم تقديرها والاعتداد بها‏.‏

ـ سلطوية تتبع أسلوب إصدار التعليمات وتقديم الإرشادات الواجبة التنفيذ‏.‏

ـ تعتنق فكرة أن الحكومة هي الأساس وتركز علي الخطط والاستراتيجيات التي توضع لتخفيف الأعباء عن نفسها‏.‏

ـ تتغلب لديها ثقافة اعتقال المعلومات وحجبها علي ثقافة حرية المعلومات والإفصاح عنها‏.‏

ـ مستوي تفاعلها مع المواطنين وأصحاب المصلحة الآخرين منخفض ويركز علي أهداف الإدارات الداخلية والتعامل مع الحدث بعد وقوعه كرد فعل وتعاملاتها المباشرة مع المتعاملين معقدة بشدة وتفتقد التنسيق مما يسبب شعورا بالإحباط الشديد لدي المواطنين‏.‏

ـ تستخدم تكنولوجيات جديدة دون أخذ المستخدمين في الاعتبار‏.‏

ـ تتعامل مع الأحداث بعد وقوعها وتلتزم بقيود إجرائية وتستجيب للتغيير ولا تسعي إلي إحداثه‏.‏

ـ تري مصدر القوة هو اللجوء إلي فرض الاستقرار من خلال جعل الهياكل والطرق التقليدية هي الأساس لمختلف العمليات والثقافات السائدة في العمل‏,‏ ولذلك فإنه عند حدوث تغيير علي نطاق واسع أو المطالبة به يبدو ذلك في نظر الحكومة وكأنه انقلاب جوهري علي كل المستويات‏.‏

ـ تبدو كالقلعة المغلقة علي أصحابها ونظمها‏,‏ حيث يتم بداخلها فقط التعرف علي ما يجب علي المؤسسة أن تقوم به وكيفية القيام بذلك ومن ثم تقديمه بشكل مستقل‏.‏

ـ تسودها علاقات غير متكاملة وتتم علي أساس بيروقراطي بين الإدارات والمستويات المختلفة بداخلها‏.‏

ـ تميل إلي رفض التحديث والتعديل ولا تجرب وتتهرب من المسئولية ويكون لمبدأ كبش الفداء تأثير قوي وفعال في بيئة العمل‏,‏ كما تتسمك بطرق وأساليب العمل القديمة‏.‏

ـ بطيئة الاستجابة ومعدل استجابتها لمواطنيها يقاس بالشهور ويتأثر بهياكل وأساليب العمل التقليدية وعدم الترابط بين الإدارات وصعوبة التعديل‏.‏

ـ تميل إلي تغييرات تكتيكية لتحقيق غرض معين يلبي احتياجات فورية‏,‏ وتعيد استخدام المراحل التي تم إنجازها بدلا من العمل علي تطويرها وتحديثها‏,‏ وغالبا ما تمارس التحسين والتطوير بصورة متقطعة‏.‏

في المقابل فإن الفلسفة والفكر الذي قامت عليه مفاهيم وبرامج الحكومة الإلكترونية يحاول بناء حكومة تتصف بأنها‏:‏

ـ ذات تنظيم شبكي تعتبر أن مهمتها الأولي تقديم الخدمات ويقوم عملها علي التعاون في العمل بين جميع النظم القائمة ومشاركة الخبراء من الخارج‏.‏

ـ تركز علي تحقيق الأهداف المتعلقة بأصحاب المصلحة من الجمهور‏,‏ بالإضافة لتحسين عملية تقديم الخدمات‏.‏

ـ تعاونية تجاه مواطنيها وذات تفاعل عال معهم وتهتم برصد ردود الفعل لديهم وتركز علي أهدافهم ومتطلباتهم وتتعامل مع الأحداث قبل وقوعها بشكل يشجع علي المشاركة النشطة والتواصل الفعال‏,‏ وبالتالي يشعر المواطنون بأنهم أصبحوا جزءا من الحكومة وأكثر سيطرة علي مصيرهم الخاص‏.‏

ـ‏'‏ منصتة‏'‏ وتعتبر المواطنين هم الأساس وتركز علي إرضائهم‏,‏ وتعتمد منهج يقوم علي تولي المواطنين أنفسهم لمسئولية إدارة علاقتهم مع الحكومة‏.‏

ـ توازن بين الحق في حرية المعلومات وتداولها ومقتضيات أمن وحماية البيانات والمعلومات وصيانتها‏.‏

ـ قائمة علي نموذج اتصالات متكامل فيما يتعلق بالتواصل بين وحداتها‏,‏ ويستند هذا النموذج إلي قيم وأخلاقيات المشاركة والتعاون في العمل والمبادرة

ـ تتعامل مع الحدث قبل وقوعه وتبحث عن ابتكار طرق جديدة لأداء الأعمال وتقديم الخدمات بشكل أفضل وتبادر بإحداث التغيير واستيعابه بدلا من انتظار حدوثه ثم الاستجابة له‏.‏

ـ تري أن مصدر القوة هو امتلاك طرق وأساليب العمل وبنية تنظيمية تتسم بالمرونة وسرعة الاستجابة‏,‏ وشكل مؤسسي يسمح بالتكيف مع التغييرات الشاملة والرئيسية واستيعابها بسهولة وبأقل قدر من تعطيل سير العمل‏.‏

ـ مفتوحة وقائمة علي التعددية والتنوع وتعتمد علي الآخرين كي يقدموا العون في عملية تقديم الخدمات‏.‏

ـ تعتمد علي رأس المال الفكري وعلي خبرة الموظفين وعلي أساليب عمل مرنة كنظام العمل من المنزل أو طرق العمل عن بعد وفقا لحاجة العمل‏.‏

ـ تقبل بفكرة المخاطرة‏,‏ وتدعم تحمل المسئولية والعمل وفقا لأساليب بتقديم المكافآت والحوافز للموظفين وتطبق قرارات وأساليب عمل جديدة ومبتكرة تتيح التعامل مع المخاطر بشكل فعال‏.‏

ـ جهودها تتكامل مع جهود شركائها من المواطنين والجهات الأخري بشكل فعلي وتوافق علي قيام الشركاء بإدارة الخدمات إذا كان ذلك يفيد عملية تقديم هذه الخدمات‏.‏

ـ تستجيب لطلبات مواطنيها خلال ساعات ودائما في حالة متابعة وتعديل وتحسين لأدائها من خلال استخدام وسائل منهجية مترابطة تستجيب للتغيرات بشكل سريع وسهل‏.‏

ـ استشارية تشجع وتسهل إبداء الآراء في تقارير الإفادة علي كل المستويات‏.‏

ـ تنفذ استراتيجية تنمية وتطوير بشكل قائم علي المبادرة وبرامجها التنموية تتم وفق رؤية أكثر شمولا ودائما ما يتم تنمية وتطوير ما تم إنجازه‏,‏ وبالتالي هناك حالة دائمة من التغيير السلس والمستمر‏.‏

وتؤكد الخبرات الدولية ـ بما فيها التجربة البريطانية المشار إليها ـ أن أية حكومة تقرر تنفيذ برامج للحكومة الإلكترونية يتحتم عليها أولا أن تغير نفسها وتقلع عن الإطار الفكري المؤسساتي القديم بملامحه المشار إليها‏,‏ وتقبل وتطبق الفكر الجديد بملامحه التي تتناسب وطبيعة برامج الحكومة الإلكترونية‏

وبدون هذا التغيير الجوهري في الرؤي والأفكار يكون مصير برامج الحكومة الإلكترونية الفشل والعجز عن الانتشار مجتمعيا‏,‏ لأنه من المستحيل علي حكومة سلطوية تضع نفسها في المركز وتدفع شعبها إلي الهامش وتقدم خدماتها ببطء وتمن علي شعبها بما تفعل أن تقنع الناس بما تفعله في مجال الحكومة الإلكترونية‏.‏

في ضوء ذلك فإننا لو قارنا الفكر والفلسفة التي يعمل بها النموذج الحكومي المصري مع الفكر والفلسفة المطلوبة لنموذج الحكومة الإلكترونية ومساحة التقارب والابتعاد بينهما‏,‏ سنكتشف أن الحكومة وهي تنفذ برامج الحكومة الإلكترونية تجاهلت ـ عمدا أو جهلا ـ البعد الخاص بتحديث وتغيير الفكر والفلسفة والرؤية ومنهجيات إدارة العلاقة مع المواطنين‏,‏ وانصب اهتمامها علي الأدوات والأجهزة والبرمجيات والخبرات التقنية التي راحت تنفق عليها إما مصادفة أو رياء

والنتيجة أن صورتها التقليدية ذات الملامح غير المقبولة لا تزال كما هي دون تغيير‏,‏ ولذلك فإن المواطن حينما يسمع بالحكومة الإلكترونية لا يجد أمامه ما يجعله يقتنع بأن شيئا ما تغير لدي الحكومة‏,‏ ومن ثم لا يتهيأ عقليا ونفسيا وعمليا لتقبل فكر الحكومة الإلكترونية كشيء جديد‏,‏ وهذا بالضبط السبب الذي أورد برامج الحكومة الإلكترونية مورد التجاهل وعدم الفهم ومحدودية الانتشار وانعدام الثقة مجتمعيا‏

وجعلها في نهاية المطاف أشبه بأطراف صناعية غريبة ملتصقة بجسد مجتمع منهك سواده الأعظم غير راض عن حكومته‏,‏ فكان طبيعيا أن نجد من يسخر من هذه البرامج بدلا من تقديرها‏.‏


No comments: