Monday, May 19, 2008

ليست اضرابات صنعها مدونون‏..‏ بل واقع جديد نواجهه باساليب قديمه

بعيدا عن احداث المحله وملابساتها‏...‏ كان لافتا للنظر فيما جري يومي‏6‏ ابريل و‏4‏ مايو وما قبلهما عبر الانترنت ان بعض اجهزه الدوله تعاملت مع ما حدث علي انه مجرد تصرفات لبضعه افراد يمكن القضاء عليهم وازالتهم من الساحه باجراءات امنيه قضائيه سريعه وينتهي الامر‏,‏ وهي نظره خارج السياق بالمره لكونها تعاملت مع واقع جديد بادوات باليه وقديمه‏.‏

ما حدث ليس مجرد صفحه لمجموعه افراد علي موقع فيس بوك دعوا من خلالها للاضراب ثم تلاها صفحات ومجموعات اخري بمواقع اخري‏,‏ بل ملمح بسيط من ملامح تغيير عميق يمر به المجتمع المصري شانه شان غيره من المجتمعات الاخري بفعل ثوره الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات التي اصبحت خلال السنوات الاخيره كجواد جامح ينطلق في البراري باقصي سرعه لاي اتجاه يريد دون توجيه من احد وبشكل لا يخلو من التلقائيه والفجائيه

ونجم عنها تاثيرات عريضه النطاق تغلغلت الي مستويات عميقه في كل المجالات فجعلت المجتمعات تعيش حياه فواره تتبدل فيها الطريقه التي يحيا بها البشر ويشكلون بها افكارهم ويمارسون بها اعمالهم ويعبرون ويدافعون بها عن مصالحهم وحقوقهم اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا‏,‏ ومن ثم فان ما جري في هذين اليومين جزء صغير من سياق اكبر واعمق لا تصح معالجته باعتباره تصرفات فرديه‏,‏ بل يحتاج لان يرد لسياقه العام المتمثل في ظاهره الديمقراطيه الرقميه والياتها الجديده التي تجسد ارقي مشاهد التاثير السياسي لثوره المعلومات‏,‏ لكونها تعصف بالشكل القديم للعلاقه بين الحاكم والمحكوم وبالمشهد السياسي برمته وتضربه بشده ليس في مصر فقط ولكن عالميا‏.‏

وظاهره الديمقراطيه الرقميه لم تظهر فجاه او بالمصادفه‏,‏ بل برزت نتيجه سلسله طويله من التطورات التي شهدتها المسيره الانسانيه‏,‏ فعلي مر التاريخ كانت التفاعلات الاجتماعيه والعقائديه والدينيه والاقتصاديه اشبه بالبوتقه التي تفرز باستمرار الكثير من الظواهر السياسيه ذات الاليات والادوات المختلفه‏,‏ وكان متخصصو وعلماء السياسه يرصدون ما يجري داخل هذه البوتقه وما يطرا علي خليطها او مزيجها الداخلي من تطورات‏,‏ ويصيغون ذلك كله في اطر نظريه وعلميه مختلفه‏.‏

لكن خلال السنوات الاخيره تبدل الموقف‏,‏ فمن ناحيه بات المشهد السياسي العالمي يموج بتيارات عارمه وشامله وعنيفه في بعض الاحيان‏,‏ تلح في ضروره نشر الديمقراطيه في شتي بقاع الارض واعتماد قيمها والياتها المختلفه‏,‏ مثل اتاحه مشاركه الشعوب في بناء الموسسات الحاكمه عبر صناديق اقتراع حره ونزيهه‏,‏ والمشاركه الشعبيه في اتخاذ القرار‏,‏ والحريه الكامله في التعبير عن الراي‏,‏ والتقويم الحقيقي للاداء والفعاليه في المحاسبه وتصحيح الاخطاء‏..‏ الخ

ومن ناحيه اخري بلغت ثوره المعلومات شاوا لم تبلغه من قبل وتمخض عنها ادوات بلا حصر‏,‏ تخصصت في التوليد والتداول الرقمي للمعلومات علي نطاق واسع وباسعار رخيصه فتحت قنوات للتواصل بين ملايين البشر بصوره غير مسبوقه‏,‏ هذا فضلا عن السهوله الشديده في استخدامها حتي بالنسبه للاميين والمعاقين‏.‏

من هنا تهيات الفرصه لكي يتلاقي ما هو سياسي متمثلا في الديمقراطيه مع ما هو تكنولوجي متمثلا في السياده الرقميه‏,‏ خاصه وان الاليات الديمقراطيه السابقه اصبحت في حاجه اشد لادوات جديده لتفعيلها عمليا وعلي نطاق واسع امام الجماهير الغفيره من المواطنين‏,‏ وانتهي الامر بحدوث تلاحم بين الطرفين‏:‏ الرغبه الجامحه في الديمقراطيه مع الثوره الجامحه رقميا في عالم المعلومات‏,‏ فدخلت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات كعنصر من عناصر المشهد السياسي العام

عنصر يتميز بالفتوه والتاثير المتعاظم علي ما سواه من عناصر اخري‏,‏ ومن ثم كان من الطبيعي ان تتغير المخرجات التي تطفو علي سطح الساحه السياسيه لتشمل واقعا جديدا وظواهر وممارسات جديده لا تتوقف جذورها عند ما هو اجتماعي وسياسي واقتصادي وعقائدي وحسب‏,‏ ولكنها تمتد لتشمل ما هو تكنولوجي بالاساس‏.‏

بعباره اخري نجحت البيئه الرقميه التي افرزتها ثوره المعلومات في ان توفر للديمقراطيه بنيه اساسيه متكامله الاركان يمكن ان تتحرك فوقها كل فعاليات وادوات الممارسه الديمقراطيه‏,‏ كابداء الراي وممارسه حق التصويت وتنظيم الفعاليات والمظاهرات والاضرابات‏,‏ ونجحت في ان تقدم منظومه قادره علي تداول المعلومات المستخدمه في الممارسه الديمقراطيه بغايه السرعه والنعومه والكفاءه فيما بين الاطراف المشاركه‏,‏ وعلي الاستجابه السريعه للطوارئ والفرص‏,‏ وعلي توفير معلومات ذات قيمه حقيقيه بسرعه مطلقه وفي الوقت المناسب لمن يحتاجها سواء داخل الموسسات السياسيه او بين الجماهير‏,‏ فبدات كثير من الممارسات الديمقراطيه تميل الي التغير بل وتنشا منها اشكالا لم تكن موجوده من قبل بسبب القوه الهائله ورخيصه التكلفه وربما المجانيه التي تتيحها التكنولوجيا فيما يتعلق بالتواصل بين البشر‏.‏

وهنا برزت مجموعه الادوات التي سادت مرحله الحوار البطيء غير اللحظي عبر الانترنت ظهر منها في البدايه نظام لوحات النشرات الالكترونيه‏,‏ ثم مجموعات الاخبار والمناقشه‏,‏ والقوائم البريديه والمواقع المجانيه والمدونات‏,‏ وهي الادوات التي شكلت العمود الفقري لعمليات التواصل شبه اللحظي بين مئات الملايين من مستخدمي الشبكه حول العالم‏,‏ ثم المنتديات وغرف الدردشه والتراسل الفوري بالصوت والصوره ونظم التصويت الجماعي والشبكات الاجتماعيه التي شكلت مرحله التواصل اللحظي مستنده لتكنولوجيا الجيل الثاني للويب التي ظهرت اخيرا‏.‏

من جانبها استخدمت الانشطه السياسيه والفعاليات الديمقراطيه الميدانيه كالمظاهرات السلميه والاضرابات وحركات العصيان المدني السلمي‏..‏الخ مجموعه الادوات السابقه اما كبنيه اساسيه وحيويه في عمليات الدعوه والتخطيط والتنظيم والحشد والتنفيذ لهذه الانشطه حينما تتم ميدانيا بالشوارع والميادين ووسط الجماهير الغفيره‏,‏ او في القيام بعمليات الدعوه والتخطيط والتنظيم والحشد ثم تنفيذ هذه الانشطه والفعاليات الكترونيا حينما تتم افتراضيا وليس بالميادين والشوارع‏.‏

ومع تزايد التوظيف العملي لهذه الادوات ظهر ما يمكن ان نطلق عليه التوجه للجماهير بشكل راسي وقطاعي مصغر بديلا عن التوجه الافقي العريض‏,‏ كما ظهر التوجه نحو اللامركزيه بدلا عن المركزيه‏,‏ ونحو العالميه علي حساب القوميات المحليه‏,‏ والتوجه الي تهميش وتحجيم دور العديد من الوسطاء في العمليه الديمقراطيه وفي مقدمتهم الاحزاب السياسيه التقليديه وما يناظرها من هياكل الحكم المصابه بالجمود‏,‏ كما ظهر التوجه نحو الغاء الخطاب الجمعي والتركيز علي الخطاب المفتت الذي يصل لمستوي مخاطبه كل مواطن علي حده‏.‏

في النهايه تبلور الموقف فيما يعرف بالديمقراطيه الرقميه التي يمكن تعريفها بانها‏'‏ توظيف ادوات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الرقميه في توليد وجمع وتصنيف وتحليل ومعالجه ونقل وتداول كل البيانات والمعلومات والمعارف المتعلقه بممارسه قيم الديمقراطيه والياتها المختلفه‏,‏ بغض النظر عن نوع هذه الديمقراطيه وقالبها الفكري ومدي انتشارها وذيوعها ومستوي نضجها وسلامه مقاصدها وفعاليتها في تحقيق اهداف مجتمعها‏'.‏

اذن نحن امام ظاهره‏'‏ سياسيه تكنولوجيه‏'‏ لم يصوغها ويتعامل معها علماء الاجتماع والسياسه فقط‏,‏ بل يشاركهم فيها وبقوه علماء ثوره التخزين الرقمي والمتخصصون في بناء وتشغيل شبكات المعلومات وبناء المواقع علي الانترنت ومحللو نظم المعلومات وفوق كل ذلك مستهلكو المعلومات ومستخدمو شبكاتها الذين هم في الوقت نفسه الجماهير العريضه التي يخاطبها اهل السياسه والحكم‏,‏ ولم يعد غريبا ان نشاهد رجال السياسه وعلماءها وقد تحولوا في كثير من الاحيان الي مستمعين لعلماء المعلوماتيه وهم يبشرون ويشرحون الديمقراطيه في صورتها الجديده المستنده لادوات التكنولوجيا‏,‏ وكيف ستغير هذه التكنولوجيا علاقه الحاكم بالمحكوم وتدق مسمارا قويا ومهما في نعش صندوق الانتخابات التقليدي وطرق التواصل القديمه‏,‏ ليحل محله مفهوم التعبير عن الراي وصنع القرار عبر الشبكات‏.‏

وعمليا برزت الديمقراطيه في بعض البلدان وخطت خطوات جعلتها تشب عن الطوق بينما لا تزال تحبو في بلدان اخري ولم تولد بعد في بلدان ثالثه‏,‏ لكنها في كل الاحوال ظهرت علي الساحه كمركب تتمازج فيه الممارسه السياسيه مع الادوات التكنولوجيه علي نحو اصاب فريق من الناس بالانبهار والترحاب وفريق اخر بالتوجس والريبه وفريق ثالث بعدم الفهم‏,‏ وقد انعكس التنوع في مستوي النضج والتفاوت في نوعيات ردود الفعل تجاه طريقه فهم واستيعاب وتعريف الظاهره‏.‏

في ضوء كل ما سبق اقول اننا بصدد واقع جديد يعبر عن قوي جديده بات لها وزن داخل المجتمع‏,‏ والتوصيف الاقرب للواقع لما حدث عبر الانترنت قبل واثناء احداث‏6‏ ابريل و‏4‏ مايو هو ان الامر ليس علي الاطلاق مجرد مجموعه افراد هنا او هناك تلاقت اراداتهم علي فعل شيء بالمصادفه‏,‏ بل نحن امام ظهور محسوس لقوي جديده صاعده بمجتمعنا تتسم بالانتشار وتزايد التاثير‏,‏ وهي اما نبتت في بيئه ثوره المعلومات او ولدت في بيئه اخري ثم وجدت في ثوره المعلومات مصدرا غنيا متجددا رحبا تتغذي عليه وتنمو تحت ظلاله وهي تحدث التغيير في شكل وبنيان المجتمع والاليات التي يتفاعل بها‏,‏ وهو تغيير لا احد يعرف ان كان سيتسمر في الانتشار ببطء وسينضج علي مهل ام سيكتسح ما هو قائم بصوره غير متوقعه‏.‏

وليس هناك من سبيل للتعامل مع هذه القوي الجديده سوي ان يهييء المجتمع القائم بكل هياكله واجهزته في السلطه وخارجها نفسه ليكون قادرا علي التعامل معها بعيدا عن السطحيه والانفعال والاساليب القديمه الباليه كما حدث من قبل كثير من اجهزه الدوله‏,‏ لانها كما قلت قوي جديده في تفكيرها واليات عملها ومصادر قوتها وضمانات استمرارها‏..‏ قوي بدات تنمو وقد ينجح البعض في اعتراضها او ابطاء حركتها قليلا باجراءات عنيفه هنا او هناك‏,‏ لكنها في النهايه قوي غير قابله للواد والاستئصال‏,‏ بل قابله فقط للتعايش والترشيد اذا ما تم التعامل معها علي قاعده الفهم والحوار‏..‏ والي الاسبوع المقبل‏.‏


جمال محمد غيطاس
http://ait.ahram.org.eg/Archive/Index.asp?DID=9574&CurFN=MAKA0.HTM

No comments: