قلت الأسبوع الماضي أن الجدل حول تعديل المادة88 من الدستور يتعين أن يتخذ منحي جديدا لا يتوقف عند الشكل الحالي المتحفي والمضحك بمقاييس عصر المعلومات, والذي لا يري في الأفق سوي وجود أو عدم وجود قاض علي رأس كل صندوق أو لجنة انتخابية عامة, فنحن في النهاية نبحث عن ضمان نزاهة الانتخابات لا ضمان استمرار إشراف القضاء, وإذا كنا جادين فعلا في تعديل هذه المادة بما يحقق مبدأ النزاهة ويجعل الانتخابات آلية لتجسيد إرادة الأمة تجسيدا أمينا وصادقا فأمامنا بديل التصويت الإلكتروني الذي بإمكانه أن يعفي الدولة وسلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية والمجتمع المدني
والجماهير من الوقوع في هوة التشاحن والانقسام معا حول الإشراف القضائي الكلي أو الجزئي, لأنه بديل يستند ـ كما ذكرت ـ إلي فكرة مغايرة لا تقوم علي الإشراف البشري المباشر من الأساس, بل تقوم علي الإشراف والتحقق الإلكتروني اللحظي الذي يتيح لكل ناخب أثناء التصويت حق الإشراف علي مسار ومصير صوته والتأكد لحظيا من أنه ذهب للوجهة التي يريدها, كما يتيح للمواطنين جميعا أن يكونوا مراقبين للعملية الانتخابية خطوة بخطوة ولحظة بلحظة, وهنا يكون الشعب ـ لا القضاة وحدهم ـ هو من يشرف علي الانتخابات ويتحقق من نزاهتها.
وقبل أن يزايد أحد بالحجج السقيمة المعروفة سلفا أسارع إلي القول بأن هذا ليس خيالا علميا بل نظاما مطبقا في عشرات الدول واسألوا أوروبا وأمريكا واليابان وغيرها, وليس حلما لا يتحقق إلا في جنة التقدم الاقتصادي والحضاري ولكنه يتحقق مع النضج الديمقراطي حتي لو كان ممزوجا مع الفقر والجهل والمرض والأمية, واسألوا الهند التي جعلت الأفيال تحمل ماكينات التصويت الإلكتروني علي ظهورها بينما الناخبون يتحلقون حولها ويصوتون, ونصبت المقار الانتخابية في الغابات تحت أشجار تتدلي منها الثعابين العملاقة, وأكدت أنه حينما تتوافر الرغبة والإرادة الجادة في انتخابات نزيهة وحرة فالتكنولوجيا جاهزة للمساعدة والضرب لحظيا علي أيدي المزورين واختصار الوقت والتكاليف والجهد ورفع مستوي الدقة والتيسير والرضا لدي الناس بغض النظر عن فقرهم وغناهم وجهلهم وعلمهم.
وانتقال الأمور من منهج الإشراف القضائي إلي منهج التصويت والإشراف الإلكتروني ليس سهلا, بل عملية شاقة وتتطلب جهودا مخلصة من مختلف الأطراف ذات العلاقة بالعملية الانتخابية والديمقراطية ككل, وبدون الخوض في تفاصيل فنية كثيرة تشتت الذهن أقول إن الأمر يقتضي تغييرا جذريا في مكونات العملية الانتخابية لتصبح كالتالي:
ـ بالنسبة للناخب يتعين وجود قاعدة بيانات قومية تنشئها السلطة وتحوز احترام وثقة الشعب وتشرف عليها جهات مستقلة محايدة ومحترفة, وتكون مهمتها التسجيل الدقيق لجميع المواليد والوفيات علي مستوي الوطن بلا توقف, وفقا لمعايير منها السن والجنس والديانة ومحل الميلاد ومحل الإقامة والوظيفة, لتعمل ـ ضمن وظائف أخري عديدة ـ كمصدر محايد ودقيق وشفاف لبيانات خام أولية تستخدم في إنشاء قواعد بيانات قومية إلكترونية خاصة بالناخبين والانتخابات, يستخلص منها جداول انتخابية إلكترونية وكشوف إلكترونية للناخبين يجري طوال الوقت تحديثها وتنقيتها من المتوفين ويضم إليها من يبلغون السن القانونية, ويكون لهم حق التصويت, كما يجري تحديثها وفقا للانتقالات والهجرة الداخلية والخارجية, ولحسن الحظ نحن لدينا قاعدة بيانات الرقم القومي الأم التي لم يعد هناك خيار سوي تحويلها إلي المصدر الوحيد الذي تتغذي عليه قاعدة البيانات الوطنية للناخبين والانتخابات.
وبالنسبة لنظم التصويت يجب أن تتغير بحيث تسمح للناخب بالإدلاء بصوته من حاسب شخصي بمنزله أو حاسب داخل لجنة التصويت أو عبر الإنترنت في عملية تبدأ بأن يغذي الناخب الحاسب أو ماكينة التصويت ببيان أو رقم متفرد يحدد هويته هو فقط ولا يتكرر مع مواطن آخر, ويفترض أن تكون السلطات المختصة زودته به عند استخراجه لبطاقته الانتخابية أو هويته الشخصية, فيقوم النظام بالتحقق من وجود هذا الرقم أو البيان داخل قاعدة بيانات الناخبين المحتوية علي كشوف الناخبين والجداول الانتخابية, وفي حالة التأكد من وجود الرقم والتحقق من هوية صاحبه وأن له حق التصويت ولم يصوت من قبل, يسمح النظام للناخب بمواصلة عملية إبداء الرأي, وتنسدل أمامه علي الشاشة قوائم المرشحين فما عليه سوي أن يؤشر علي اسم أو رمز المرشح ويضغط بالموافقة علي الاختيار, وهنا ينتقل صوته الانتخابي إلكترونيا ويسجل في أنظمة العد والفرز وإظهار النتيجة تلقائيا, ويسجل في قاعدة بيانات الناخبين أنه أدلي بصوته, ويفقد رقم الهوية قدرته علي الدخول إلي نظام التصويت مرة ثانية سواء في لجنته الانتخابية أو أي لجنة أخري.
وبالنسبة لنظم عد وفرز أصوات الناخبين وإظهار النتائج يتعين وجود نظم إحصائية إلكترونية تنشئ جداول إحصائية لكل المرشحين وتدخل فيها الأصوات حسب الرموز الانتخابية من مختلف اللجان والصناديق, ثم يتم تغذيتها بالأرقام والبيانات الخام الأولية التي يستخرجها موظفو الانتخابات والقائمون علي إدارتها من صناديق الانتخابات, لتقوم بإجراء الحسابات الإحصائية المختلفة علي أرقام المصوتين التي تتسم بالكثرة والتنوع وتتعدي الآلاف في كل صندوق أو لجنة انتخابية, وتصل لعشرات الملايين علي مستوي الدولة ككل, كما تقوم بالمقارنة بين أصوات المرشحين وفي تنحية الأصوات الباطلة والتعرف علي نسبتها, ثم قياس نسبة الأصوات التي حصل عليها كل مرشح قياسا إلي إجمالي المصوتين.
هذه هي متطلبات التصويت الإلكتروني في أبسط صورها وبعيدا عن تعقيدات بناء البنية المعلوماتية اللازمة لها علي المستوي القومي, والسؤال الآن: كيف يمكن أن يتغير الدور الإشرافي للقضاة في ظل هذا الواقع التكنولوجي الجديد؟
هناك ثلاث نقاط أساسية توضح كيفية حدوث هذا التغيير وهي كالتالي:
أولا: حينما تكون قاعدة بيانات الرقم القومي هي مصدر التغذية الوحيد بالبيانات الأولية التي تحتاجها قاعدة بيانات الناخبين علي مستوي البلاد, سيكون من الصعب للغاية إن لم يكن من المستحيل التلاعب بالبيانات الأساسية داخل قاعدة بيانات الناخبين, لأنه من المستحيل التلاعب بقاعدة بيانات الرقم القومي مهما شاعت ثقافة التزوير والاستبداد لأن هذه القاعدة باتت تشكل واحدا من الأصول الحيوية للدولة والمجتمع وليس الحكومة أو النظام فحسب, ومن ثم فإن مثل التلاعب بها معناه هدم الدولة بكاملها علي رؤوس الجميع وليس فقط التلاعب في العملية الانتخابية, وإذا تحقق الربط بين قاعدة بيانات الرقم القومي وقاعدة بيانات الناخبين فلنا أن نطمئن إلي سلامة وصحة مصدر التغذية الرئيسي بالبيانات الانتخابية الأولية الخاصة بالناخبين دون الحاجة إلي إشراف قضائي من عدمه في هذه المرحلة, وعموما لن يكون الحال أسوأ مما هو عليه الآن لأن القضاة لا يشرفون علي أي مرحلة من مراحل إعداد الكشوف الانتخابية الأولية للمواطنين حاليا.
ثانيا: يمكن فتح قاعدة البيانات الانتخابية بعد بنائها أمام الجماهير طوال العام للدخول عليها بلا عوائق بالرقم القومي لكل مواطن عبر الإنترنت كما هو الحال في الهند التي تتيح جداولها الانتخابية علي الشبكة الدولية وبها أكثر من نصف مليار ناخب, ومادام هناك ربط بين بيانات الرقم القومي للمواطن وبين بياناته كناخب فبإمكان كل مواطن أن يتحقق من سلامة بياناته المسجلة في قاعدة بيانات الناخبين في أي وقت, ويمكن فتحها كذلك أمام الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وغيرها من الجهات طوال العام للاستفادة بها فيما تقوم به من أنشطة يخولها لها القانون ولممارسة دور إشرافي مستمر علي الكشوف الانتخابية وليس وقت الانتخابات فقط, وإذا ما تحقق ذلك المطلب سيكون من الميسور للغاية أن يتحول كل ناخب أو عضو في حزب سياسي إلي مشرف ورقيب علي سلامة بياناته وبيانات الآخرين داخل قاعدة بيانات الانتخابات.
ثالثا: في مرحلة التصويت التي يتركز حولها الجدل حاليا وتتناولها المادة88 بشكل مباشر, يمكن بناء نظم التصويت الإلكتروني بحيث تتيح للمواطن التعرف علي مسار صوته لحظيا عقب التصويت علي مستوي الصندوق الانتخابي الذي يدلي فيه بصوته, فيلاحظ علي الشاشة اسمه ورقمه القومي والمرشح الذي اختاره بعد الإدلاء بصوته مع تسجيل ذلك في نظام التصويت بطريقة فنية لا يمكن التلاعب بها أو تغييرها بعد إعطاء الموافقة النهائية علي الاختيار, ويمكن أن يصمم النظام بطريقة تجعله يعرض نتيجة تفصيلية لكل الصناديق ونتيجة إجمالية لأعمال اللجنة الانتخابية ككل ليتابعها ويراقبها من هم داخل اللجنة وخارجها من مندوبي المرشحين ومنظمات المجتمع المدني والناخبين وغيرهم,
وتصميم نظم التصويت بهذا الشكل يجعل مراحل التصويت والفرز وإعلان النتائج علي مستوي الصندوق أو اللجنة الانتخابية تندمج معا في مرحلة واحدة تقريبا, وبالتالي تنتفي تلقائيا أو تقل بشكل ساحق فرص التزوير والتلاعب بالأصوات داخل اللجان, أما مرحلة التجميع والإعلان علي مستوي الدائرة ثم المحافظة ثم الدولة ككل, فيمكن أن تتم بشكل متلاحق بفارق زمني قد يقاس بالدقائق طبقا لنظم وأدوات نقل النتائج من اللجان الفرعية إلي العامة, وبالشكل نفسه يمكن تصميم نظم التجميع والفرز وإعلان النتائج باللجان العامة بحيث تتيح لمندوبي المرشحين والجهات المعنية ومنظمات المجتمع المدني والناخبين أنفسهم فرصة المراقبة والمتابعة بشفافية كاملة, وإذا ما توافرت النية لتحقيق ذلك فسيتحول الناخب والمواطنون عموما إلي شركاء فاعلين في المراقبة والإشراف علي الانتخابات خلال مرحلة التصويت.
حينما تتحقق هذه النقاط الثلاث نكون إما أمام تغيير جذري لدور القضاء في الإشراف علي الانتخابات, سواء بإلغاء الدور الإشرافي كاملا أو بتغييره ليتخذ طبيعة جديدة تماما تركز مثلا علي المشاركة في التحقق من سلامة نظم الانتخابات الإلكترونية نفسها ومدي قدرتها علي سد الثغرات أمام محاولات التزوير والتزييف وقبل ذلك قيام هذه النظم بوظائفها بالكفاءة والدقة المرسومة لها, ولاشك أن كل التفاصيل السابقة تجعل من الخطأ الاستمرار في الجدل والتشاحن حول المادة88 بهذه الطريقة الحالية العقيمة والبالية دون الالتفات للتغيرات العميقة التي يعيشها العالم من حولنا.
ghietas@ahram0505.net
4 comments:
مشكلة الإنتخابات مشكلة متعلقة بالغش والتزوير وبالتالي فهي مشكلة أخلاقية في أساسها
في رأيي المتواضع لا يمكن ولن يمكن أن تحل التكنولوجيا مسألة أخلاقية، التكنولوجيا ماهي إلا أداة وستسخدم في جميع الأحوال بشكل يناسب أخلاقيات مستخدميها
طبائع الإستبداد والإنفراد بالرأي لا يحلها إلا محو الأميه التعليمية والثقافية الموجودة والإرتفاع بأخلاقيات المجتمع فوق الكذب والغش والخيانة
والله أعلم
ahm
ياعم غيطاس
في الأحلام في الأحلام في الأحلام
انت عايز خريجين الشرطة
و الحاصلون علي متوسط 60% في الثانوية العامة
يتنازلوا عن السيطرة علي الإنتخابات
للناس بتوع التكنولوجيا و الأنترنت
انت عايز البلد تبوظ
عشان يوفقوا علي النظام بتاعك
لازم يكون بيتيح امكانيةالتزوير
بطريقة سرية تماما
في الأحلام في الأحلام في الأحلام
مصر بلدنا في الأحلام في الأحلام
الي جمال غيطاس
مازلت تعيش في برجك العاجي
بمكتبك بالأهرام
انا اريد ان اقول للاخوة اللى بيقولوا ان صعب لخريج الشرطة التعامل مع التكنولوجيا
ان الآن الرقم القومي يتم عن طريق النت
يمكنك التقدم لكل جهات وزارة الداخلية عن طريق موقعها
فبالتدريب الدنيا تبقي احسن
و اخيرا بلاش اى نوع من السخرية على اى شخصية
Post a Comment