http://ait.ahram.org.eg/Archive/Index.asp?DID=10085&CurFN=MAKA0.HTM
في اكتوبر1999 اتيح لي ان احضر الجلسه الرئيسيه لافتتاح الموتمر والمعرض الدولي للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بجنيف تيليكوم99, وامام ما يقرب من118 وزيرا للاتصالات والتكنولوجيا وبحضور كوفي عنان سكرتير عام الامم المتحده في ذلك الوقت وبضعه الاف من قاده هذه الصناعه حول العالم اعتلي المنصه لوي جريستنر رئيس اي بي ام في ذلك الوقت ليفتتح الحديث بمحاضره مبهره, ثم تلاه بيل جيتس موسس ورئيس مايكروسوفت والقي محاضره لا تقل ابهارا, واذكر انني كتبت ساعتها ان محاضرتيهما ظهرتها بمظهر اسطوري مثير للاعجاب
فبيل جيتس كان له حضور نجم مشهور من نجوم الكره او السينما او الادب والثقافه, وتحدث ببساطه شديده في اطار تكنولوجي تقني خلاب رسم خلاله خططا واحلاما للمستقبل, اما جريستنر فكان له حضور وجاذبيه الزعيم السياسي ذي الكاريزما الواضحه او الحكيم الذي ياخذ بلب مستمعيه, والقي محاضره كانت خليطا من الفلسفه والفكر, قدم خلالها تحليلا للواقع واتجاهاته وتموجاته مستشرفا ملامح الحياه الجديده, والان اقول ان الرجلين في هذه الجلسه لم يكونا مديرين يمارسا حرفه اداره وتشغيل الشركات بل تجاوزا ذلك وكانا حمله افكار واصحاب ابداع فكري ينقلانه الي مستمعيهم الذين جاءوا من مختلف ارجاء الارض.
في جنيف ايضا, وفي ديسمبر2003 خلال انعقاد الدوره الاولي للقمه العالميه لمجتمع المعلومات تكرر المشهد امامي ولكن علي مستوي مختلف, فخلال حضوري للقمه تابعت مدير احدي شركات المحمول الهنديه وهو يعرض مع زميل له مشروعا لاستخدام الرسائل القصيره عبر المحمول في توفير الرعايه الصحيه بالقري والتجمعات الهنديه الفقيره المنعزله والمحرومه, واسهب الرجل وهو يشرح كيف استخدم شبكه المحمول ورسائلها النصيه كقناه لنقل المعلومات ما بين المرضي والمحتاجين للرعايه الصحيه في هذه المناطق وبين المستشفيات العامه ومراكز تقديم الرعايه الصحيه الرئيسيه في المدن والتجمعات الحضريه.
وفي احد فعاليات القمه الاخري شاهدت مجموعه من مديري شركات تكنولوجيا المعلومات باحدي دول اسيا الوسطي, وهم يلتفون حول رئيس دولتهم ووزير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات هناك ليعرضوا للمشاركين في القمه كيف قاموا ببناء منظومه معلومات لاداره القطاع الزراعي في بلدهم استنادا الي منهج المصادر المفتوحه والبرمجيات مفتوحه المصدر, وشارك في تطوير هذه المنظومه القطاع الخاص والقطاع الاكاديمي ممثلا في الجامعات ومراكز البحث والحكومه علي مستوي مجلس الوزراء, وكيف انتهت هذه المنظومه الي تقليل الفاقد في المحاصيل الزراعيه بنسبه كبيره وترشيد الاستخدام ورفع كفاءه البذور ورفع الانتاجيه.
في الحالتين وجدت مديرين يحملون افكارا ولا يتوقفون عند الاداره كحرفه, مديرين تحولت هموم مجتمعهم لفكره تسكن عقولهم فتجعلهم يتجاوزون حد الحرفه ويتحولون لحمله فكره تسعي بنبل لهدم الهم ورفع اثره عن كاهل مجتمعهم.
حينما انظر الي حال مديري شركات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بوطننا, فاستطيع القول انه من خلال متابعتي لهذا القطاع عن قرب لحوالي ثلاثه عشر عاما منذ عام1996 وحتي الان فان غالبيه مديري شركاتنا لديهم حرص علي الحرفه حتي الاعلاء واهمال للفكره حتي المحق, بعباره اخري لدينا مديرون يهتمون بامور التشغيل والربح والخساره وجوده المنتج والخدمه وكفي, وهذه امور يمكن ان يمارسها اي مدير يمتلك الحرفه ثم يمضي دون ان يترك بصمه, اما المدير صاحب الفكره فيمضي تاركا اثرا لا يمكن محوه, خسرت الشركه ام كسبت, نمت ام تراجعت.
وطوال هذه الفتره لم اصادف من حمله الافكار سوي القليل, اذكر منهم علي سبيل المثال لا الحصر المهندس عمرو توفيق والدكتور احمد طنطاوي في اي بي ام مصر, والمهندس عاطف حلمي في اوراكل مصر, فتوفيق وطنطاوي كانا مديرين محترفين في اي بي ام العالميه وشاءت الظروف ان يجتمعا معا في فرع الشركه بمصر, ولانهما اصحاب فكره في مجال التنميه المعلوماتيه المحليه اقتنصا اول فرصه لاحت لهما داخل الشركه وتجاوزا الحرفه, فانتهي الامر بانشاء مركز القاهره للتطوير التكنولوجي داخل الشركه الذي يعمل به الان بضع مئات من خيره شباب هذا الوطن ويعد احد العلامات البارزه في قطاع تكنولوجيا المعلومات.
والشيء نفسه فعله المهندس عاطف حلمي الذي كان مديرا محترفا في اوراكل العالميه للبرمجيات وشاءت الظروف ان يكون مسئولا عن اعمال الشركه بمصر, ولان لديه فكره من النسق الذي كان لدي توفيق وطنطاوي, استطاع ان يقتنص فرصه اثمرت هي الاخري عن مركز متميز للدعم الفني للشركه بالقاهره يعمل به المئات ايضا من خيره شبابنا, والان مضي عمرو توفيق وترك اي بي ام وتقاعد تاركا بصمه, ومضي عاطف حلمي وتقاعد من اوراكل تاركا بصمه, وحينما يترك الدكتور طنطاوي اي بي ام سيتركها ووراءه بصمه, وهاتان بصمتان فتحتا ممرا لنقل المعرفه وفرص العمل امام شباب الوطن وشيدتا حجرا ايجابيا في صوره مصر الذهنيه عالميا, وقناعتي انه لو لم يكن لدي هولاء فكره لما تم اقتناص الفرصه ولتوقف الامر عند ممارسه الحرفه حرصا علي تحقيق ربح وتوسيق سوق.
امامنا ايضا نموذج الدكتور عادل دانش في تاسيسه وادارته لشركه اكسيد, وهو نموذج قام علي مزيج من الفكره والحرفه معا, فدانش كان رائدا وربما مغامرا بفكره وهو يوسس اول شركه من نوعها تعمل في صناعه مراكز الاتصال والتعهيد بصوره كامله في مصر, اي كان لديه فكره ووجهه نظر وهو يبدا نشاطا من هذا النوع, وحتي الان يدير الشركه ولديه فكره او هاجس هو تحويلها الي علامه علي نجاح هذه الصناعه في مصر, ولو ترك دانش اكسيد فسوف يترك وراءه بصمه سببها مزج الفكره بالحرفه.
لا انسي ايضا المهندس هاشم زهير الذي ادار اعمال شركه ان سي ار في مصر لفتره طويله ثم انتقل لاحدي شبكات المحمول وهو لديه فكره, وكثيرا ما كرر في لقاءاتنا انه يحلم بتكوين لجنه للحلم تحلم للصناعه وللوطن بافكار خلاقه, ثم طور فكرته وقال انه يخطط لاقامه صالون فكري ثقافي لصناعه تكنولوجيا المعلومات, ولا ادري ان كان نفذ فكرته ام لا, ولو نفذها لكان سباقا, لكنه في كل الاحوال لم يكن مديرا يمارس حرفه بل كان شخصا لديه فكره اعرف انه استمات في تطبيقها داخل شبكه المحمول التي عمل بها.
الملفت للنظر ان قطاع الاتصالات وتحديدا شركات المحمول الثلاث لم تقدم لنا حتي الان مديرا يتجاوز الحرفه الي الفكره, والتشغيل الي الابداع, علي غرار ما وجدناه في النماذج السابقه, واقول الان صراحه انه منذ بيع شركه المحمول الحكوميه وتاسيس شبكه المحمول الاولي في نهايه التسعينيات وحتي الان وبسبب طغيان الحرفه علي الفكره لم اجلس او اقابل اي من المديرين العاملين بهذه الشركات الثلاث او موسسيها ولم اسع لذلك الا مره واحده فقط مع المهندس عثمان سلطان اول عضو منتدب للشبكه الاولي الذي استمعت اليه يحاضر في احد الموتمرات العلميه ووجدت لديه هذا التوجه, وكان الصديق عادل البنداري خبير العلاقات العامه والمسئول عن اعمال التنسيق الاعلامي لعثمان سلطان في ذلك الوقت حاضرا معي الجلسه فاتفقت معه علي ترتيب لقاء مع الرجل, وتم اللقاء بالفعل حينما كانت الشركه تحت التاسيس ولم يكن عثمان سلطان قد تحول بعد الي نجم صحافه, وكان هذا هو اللقاء الوحيد اليتيم مع مدير من مديري شركات المحمول وبعدها لم اسع لمقابلته, ففيما بعد طغت لديه اعباء الحرفه علي جذوه الفكره.
والي الان لا اعرف بالضبط اين تقع مقار شركات المحمول التي يجلس بها مديروها ويديرون منها شركاتهم, واكرر ان السبب في هذا العزوف انه تواتر علي هذه الشركات مديرون تطغي لديهم الحرفه علي الفكره ان لم تكن تمحقها محقا, وكل ما لديهم من معلومات وبيانات ولا اقول افكار يسيل باستمرار عبر اعلانات صريحه او بيانات مدفوعه, لا ترقي لمستوي فكره تناقش او رويه يبني حولها حوار او ابداع يستشرف المستقبل ويشتبك بجديه مع هموم المجتمع الحاضره.
وفي المرات القليله التي تخرج من بعضهم انشطه يمكن الحاقها بنسق ما فعله مدير شبكه المحمول الهندي في قمه المعلومات كما هو الحال فيما يسمونه انشطه المسئوليه المجتمعيه للشركات والتي يبدو بعضها لاول وهله تقدما للفكره علي الحرفه سرعان ما تجد النشاط قد تبدد ودخل مسارا مختلفا تطغي فيه الحرفه علي الفكره, وتلح سياسات المدير الحاحا فظيعا علي ان الشركه تقدم فكره للمجتمع, فيصبح الامر اشبه بصدقه يتبعها اذي واحسان يتبعه المن, وليس فكره ترجمت في مشروع يستند لابداع صادق يخفف الهموم.
انني لا اطلب ان يصبح لدينا مدير يحمل فكره علي نسق بيل جيتس ولو جريستنر, لكنني اطلب بشده مديرين يحملون افكارا علي نسق المدير الهندي والمدراء الاسيويين والوطنيين المشار اليهم, فنحن ليس في طاقتنا انتاج او حتي استيراد مدير من النسق الاول, لكن نحن نحتاج ومن واجبنا انتاج مديرين من النسق الثاني, ولا يصح ان يكون حمله الافكار بين مديري شركاتنا اشبه بومضات الضوء او الشهب التي تظهر وتختفي فجاه بصوره نادره خاضعه لمنطق المصادفه, ولا يليق بمجتمع يعاني كل هذه المشكلات المذهله المعقده المزمنه المربكه ان تندر فيه او تختفي منه فئه المديرين حمله الافكار ومالكي القدره علي الابداع في التعامل مع مشكلاته وهمومه.