إذا ما تقرر إعادة هيكلة القطاع الصحي ليعمل بمفهوم الإدارة القائمة علي المعلومات, فلابد أن تتوافر لدي الجهات المعنية رؤية واضحة منذ البداية حول كيفية الاستيعاب المستمر والمناسب للتطورات السريعة والمتلاحقة التي يشهدها عالم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والالكترونيات داخل المنظومة الصحية للبلاد, ووضع إطار عام يحدد الأسس والمناهج التي يتعين أن تسير فيها هذه التطورات الجامحة لكي يجري باستمرار استيعابها وتوظيفها توظيفا جيدا وناجحا, وذلك لأن تكنولوجيا المعلومات ثائرة لا تكف عن الانتفاض والتطور والتغير السريع علي طريقة جياد البراري الجامحة التي تنطلق بأقصي سرعة لأي اتجاه دون توجيه من أحد, بينما منشآتنا الصحية قاصرة وعاجزة عن استيعاب هذه التكنولوجيات المتلاحقة وما تفرزه من تغييرات في الأفكار والممارسات وشكل وطبيعة خدمات الرعاية الطبية المقدمة, وتشكل المطالبة بوجود هذا الإطار أو المنهج المسار السادس بين المسارات الثمانية المطلوب المضي فيها لإعادة هيكلة القطاع الصحي ليعمل بمنهج الإدارة القائمة علي المعلومات, والتي عرضنا منها حتي الآن مسارات الجودة والتكلفة وتطوير التأمين الصحي ونظام اعتماد وإقرار صلاحية المستشفيات والطواقم الطبية وصناعة القرار الصحي.
ولكي تتضح أمامنا أهمية وخطورة هذا المسار أستعرض فيما يلي وبشكل مختصر أمثلة سريعة لبعض التطورات المتلاحقة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتي يمكن القول إنها تشكل حالة الثورة, أما غيابها عن الغالبية الساحقة من مؤسساتنا الصحية فيشكل حالة القصور عن الاستيعاب:
ـ التعامل اللاورقي داخل المستشفيات: وهو وضع يتحقق مع وجود نظم معلومات إدارة المستشفيات بما تحتويه من برمجيات وأدوات مساعدة, وكذلك ما يتكامل معها من نظم وبرمجيات وتكنولوجيات وأجهزة متنوعة تضطلع بمسئولية إدارة دورة العمل كاملة بالمستشفي بشكل إلكتروني, بدءا من إدخال بيانات المريض عند دخوله لأول مرة عبر نموذج ملء البيانات الإلكتروني الموجود في مجموعة النماذج الخاصة بالجزء الطبي داخل المستشفي, ثم وضعه علي جدول مواعيد الطبيب المختص الذي يتلقي بدوره هذه المعلومة عبر البريد الإلكتروني من الحاسب الشخصي الخاص به بالمستشفي أو المنزل, فيقوم بإجراء التشخيص ومناظرة المريض في الموعد المحدد, ولو طلب أشعة ما يقوم النظام باستدعاء المعايير الصحية الخاصة بهذا النوع من الأشعة, والتي تحدد زمن وكيفية وتكلفة إجرائها, ثم يبث هذه المعلومات إلي البرنامج الخاص بتشغيل وحدة الأشعة, ليوضع المريض علي قائمة المطلوب إجراء أشعة لهم, كما تبث إلي الجزء الخاص بإدارة المخازن والتوريدات الطبية والمشتريات لضمان وجود المستلزمات الطبية اللازمة للتشخيص, عندما يصل المريض إلي غرفة الأشعة تكون هذه المعلومات قد فعلت مفعولها إلكترونيا في جميع أنظمة المستشفي إداريا وماليا وطبيا, وأصبحت وحدة الأشعة والمخازن وإدارة المستشفي علي علم بها, وقام كل منهم بدوره حيالها, يتم الفحص بالأشعة, وهنا يتابع النظام معدل الأداء وهل تم وفقا للمعايير الموضوعة أم لا, ويبعث بالنتيجة إلي جميع الجهات المختصة بالمستشفي, وإلي الطبيب المعالج, الذي يستقبل صورة الأشعة علي شاشة الحاسب, ويحدث الشيء نفسه مع معمل التحاليل والصيدلية وغيرها, ويحدث كل ذلك عبر دورة مستندية إلكترونية خالية من الورق أو أفلام الأشعة.
ـ البطاقات الصحية الذكية: هي بطاقة صغيرة في حجم بطاقة الائتمان العادية, ومثبت بداخلها شريحة إلكترونية متناهية في الصغر تضم حاسبا دقيقا من نوع خاص, فهو مزود بمجموعة من البرامج المتخصصة ذات الوظيفة المحددة, ومزود بوحدة ذاكرة صغيرة لتخزين المعلومات, ويعمل فقط عندما يتم إدخال البطاقة في وحدة خاصة تسمي قارئ البطاقات الذكية, وعند دخول البطاقة يصبح هذا الحاسب والبرامج المحملة عليه في حالة نشطة, فتستقبل المعلومات وتخزنها وتسترجعها وتعدلها, وفي حالة استخدامها طبيا علي نطاق واسع يمكن لأي شخص شراؤها فارغة, ثم يقوم متخصصو الرعاية الصحية بتحميل تاريخه الطبي والصحي كاملا عليها, وعند دخوله أي مستشفي بها قارئ للبطاقات الذكية يتعرف الأطباء علي الفور علي تاريخه الصحي كاملا, مما يساعد دقة وسرعة التشخيص والعلاج ويقلل الأخطاء الطبية ويخفض التكاليف, ونشر أسلوب البطاقات الصحية الذكية يحتاج ـ كما سبق القول ـ تغييرا في العديد من المفاهيم والأفكار السائدة بالقطاع الصحي, فلابد من وجود قواعد بيانات قومية صحية للمواطنين, ومستشفيات تعمل بنظم المعلومات وغيرها.
ـ البطاقة الصحية الجينية: لا تختلف من الناحية التكنولوجية عن البطاقة السابقة لكنها تحمل معلومات مختلفة, تتمثل في السجل الجيني والوراثي للشخص نفسه, والذي يساعد كثيرا في التعرف علي ما إذا كانت بعض خلايا جسم حامل البطاقة ستتطور إلي سرطان, وأفضل وأنسب الأدوية التي يمكنه الاعتماد عليها في التعامل مع ما أصابه أو سيصيبه من أمراض أو عدوات بكتيرية أو فيروسية.
ـ تكنولوجيا الباركود وشرائح التعرف علي الهوية بموجات الراديو: الباركود تعني ببساطة تجميع كمية كبيرة جدا من البيانات والمعلومات الخاصة بأي شيء ثم تحويلها إلي أكواد ثم طباعتها علي أي نوع من الورق لتظهر علي شكل خطوط سوداء ثم إعادة قراءتها والتعرف عليها بجهاز قارئ, وفي المستشفيات تستخدم تكنولوجيا الباركود في تكويد بيانات المرضي والتفاصيل الكامله لحالتهم الصحية, ووضعها علي باركود يلصق علي سرير المريض أو علي شكل سوار من البلاستيك يرتديه المريض في معصم يده, ويستخدم كوسيلة تعارف بين الطبيب والمريض, وكوسيلة لتوثيق ما يتم له من إجراءات طبية, وهناك تكنولوجيا أخري تقوم بهذه الوظيفة تعرف بتكنولوجيا التعرف علي الهوية بموجات الراديو, ويتم فيها استخدام شريحة إلكترونية دقيقة يتم التواصل معها لاسلكيا بواسطة أجهزة خاصة يحملها أفراد الطاقم الطبي ويتم من خلالها التعرف علي هوية المريض وسجله الطبي وتوثق بها جميع المعلومات الخاصة بالمريض.
ـ نظم المعلومات الجغرافية ونظام تحديد المواقع العالمي: وهي نظم دخلت في الكثير من التطبيقات المتعلقة بالرعاية الصحية خاصة خدمات الإسعاف والطوارئ, وتتيح هذه التكنولوجيات رفع كفاءة مراكز الإسعاف والطوارئ في الوصول بسرعة إلي المرضي والمحتاجين, فلو طلب شخص من مركز الإسعاف سيارة لإنقاذ شخص مصاب بأزمة قلبية مثلا فإن هذا النظام يتيح التعرف علي عنوان طالب الخدمة, ومن ثم تحديد مكانه بدقة ثم يستخدم النظام في التعرف علي مواقع سيارات الإسعاف لحظة وصول البلاغ, ثم إبلاغ هذه المعلومة لأقرب سيارة إسعاف إلي العنوان المطلوب, لتتوجه السيارة للمكان بمساعدة ملاحية من نظام تحديد المواقع ونظم المعلومات الجغرافية, وطبقا لبعض التقديرات فإن تطبيق هذا النظام يمكن أن يضاعف من سرعة وصول سيارة الإسعاف للمصاب إلي ثلاثة أضعاف.
ـ تكنولوجيا الطب عن بعد: وهي تكنولوجيا تستخدم حينما يكون هناك مؤسسة صحية بالمدينة أو المكان الذي يوجد به أمهر الأطباء وأكثرهم خبرة وشهرة, وكذلك أحدث طرق التشخيص والعلاج, ومؤسسات فرعية تفتقر إلي هذه الإمكانات المتقدمة بالأماكن البعيدة والنائية أو التجمعات السكانية القليلة, وفي حالة توافر الإمكانيات الفنية اللازمة يمكن عبر خطوط الاتصال المناسبة نقل وتبادل صورة الأشعة والمعلومات الخاصة بالمرضي من المراكز الفرعية إلي المركز الرئيسي وكذلك نقل صوت المريض وصوته إلي الطبيب الذي سيقوم بالتشخيص علي بعد مئات الكيلومترات.
ـ نظم معلومات التتبع داخل المنشآت الصحية: وهي نظم تساعد هذه المؤسسات علي ايجاد طريقه سهلة وفعالة لتتبع أفراد الطواقم الطبية لتسهيل العثور عليهم بصورة فورية وقت الحاجة, والآن يتم تطوير بعض النظم والبرامج التي تسمح بتتبع ليس الأشخاص فقط بل الأجهزة والمعدات أيضا, وتساعد هذه النظم علي دراسة فاعلية توزيع الأطباء والممرضات والمعدات بطريقة معينة داخل المستشفي وقت حدوث الطوارئ, وما إذا كان يستوجب تغيير طريقه توزيعهم أم لا.
ـ تكنولوجيا تقديم الخدمات الصحية عبر الإنترنت: وهي تسمح للأطباء والمرضي بالدخول علي نظام معلومات المستشفي طبقا لمستوي الصلاحيات الممنوحة لكل منهم للقيام بالعديد من المهام عن بعد, فالطبيب مثلا يمكنه الدخول علي جدول المواعيد الخاص به ويتعرف علي نوعية المرضي الذين سيقوم بالكشف عليهم, ويمكنه تعديل هذه المواعيد, إذا اقتضت الحاجة, والمريض يمكنه الحجز لنفسه والحصول علي تقديرات مبدئية لتكلفة الخدمة الصحية التي يرغب في الحصول عليها من المستشفي.
إن كل ما سبق ليس سوي أمثلة سريعة للتطورات المتلاحقة التي تندفع من تكنولوجيا المعلومات إلي ساحة الرعاية الصحية كسيل لا ينقطع, وفي كل مثال من هذه الأمثلة هناك مئات المنتجات والمعدات والبرمجيات والأنظمة التي تنتجها وتسوقها عشرات الشركات في غرب العالم وشرقه, وبعضها يغني عن البعض أو يتكامل مع البعض الآخر أو يمكن استخدامه علي نطاق فردي حسب مقتضيات الموقف داخل كل مؤسسة صحية أو يتعين استخدامه علي نطاق عريض داخل القطاع الصحي بأكمله, ويتعين أن يتم توظيفه من خلال منهج أو قواعد عامة يتشارك فيها الجميع ويقبلون بنوع ما من التفاهم والعمل بها ضمن إطار أو منهج متفق عليه فيما يتعلق باختيار نوعية التكنولوجيا والجهة المنتجة لها ثم كيفية التركيب والتشغيل والتدريب والصيانة وغيرها.
وفي كل الأحوال يحتاج القطاع الصحي إلي بناء عقل معلوماتي جديد يعرف كيف ينتقي ما يريد مما هو متاح أمامه من تكنولوجيات وكيف يستوعب ويروض تغيراتها المستمرة فيما يحقق للمواطن أفضل رعاية صحية ممكنة بأقل تكلفة ممكنة, وبهذه الطريقة يمكننا أن نغير المعادلة القائمة حاليا بين التكنولوجيا الثائرة المتدفقة والمؤسسات القاصرة عن استيعابها.